السبت، 6 فبراير 2016

شذرات في العشق الألهي من كتاب منطق الطير





إن تقل بترك الروح، تصبح عاشقًا، سواء كنت زاهدًا أو فاسقًا، وإن يعاد قلبك روحك، فانثر الروح، يأتيك الطريق حتى نهايته، الروح سد في الطريق، فكن للروح ناثرًا، واطرح الحجاب بعد ذلك، وأحسن النظر، وإن يقل لك عن الإيمان تخل، وإن يقل لك عن الروح تخل؛ فانثر هذا وذاك، وقل بترك الإيمان، وكذا عن الروح تخل.


إن يقل منكِر إن هذا أمر مُنكَر، فقل: إن العشق أعلى مكانة من الإيمان والكفر، وأي شأن للعشق مع الكفر والإيمان؟ وأي شأن للعاشقين مع الجسد والروح؟ إن العاشق يشعل النار في كل بيدر، ويوضع المنشار على رأسه، وهوه لائذ بالصمت، لابد للعشق من الألم والغصة، ولا بد للعشق من المشاكل والصعوبات. فيأيها الساقي املأ الكأس بدم الكبد، فإن عدمته، فلتستعره من آلامنا، إذ لابد للعشق من آلام تمزق الحجب، فمزق حجاب الروح أحيانًا وخطه أحيانًا، وذرة عشق تفوق جميع الآفاق، وذرة ألم تفضل جميع العشاق، والعشق لب الكائنات على الدوام، ولكن لا يكون العشق تامًا بلا إيلام.

كل من له قدم في العشق راسخة، قد تخطى الكفر والإسلام معًا، العشق يفتح لك بابًا نحو الفقر، والفقر يظهر لك طريقًا صوب الكفر، وللعشق قرابة بكفرك، وكفرك هو لب فقرك، وإن ضاع منك الكفر والإيمان، فمعنى هذا أن جسدك قد فني وأن روحك قد فاضت. بعد ذلك تكون خليقًا بهذا العمل، إذ لا بد لهذه الأسرار من رجل، فسر في الطريق كالرجال، ولا تخف، وتخل عن الكفر والإيمان، ولا تخف. كثيرًا ما يعتريك الخوف، فتشجع وتخل عن عالم الأطفال، وكن كأشجع الرجال أمام الأعمال، فإن اعترضَتْ طريقك فجأة مئات العقبات، فلا خوف من التعثر في الطريق.

إن يبادر بالعشق من جانبه، فإنك تكون جد لائق بعشقه، أما العشق الصادر عنك، فاعلم أنه يليق بوجهك فقط، وإن يتلاطف معك، فلك أن تكون كالنار من عشقه، الأمر له وليس لك، يا عديم البصر، وأَّنى لجاهل أن يدرك عنه أي خبر؟ ...

عشقه ضرورة لك، وهذه هي الحقيقة، أما عشقك له فغمٌ وهم، إن كان لك عشقه، فاطلبه هو أيضا، ولا تكف يدك عن هذا الطلب مطلقًا، فالعشق القديم يرغب في عشق جديد، كما تطالب الكنوز بالمزيد من الدراهم، والقلب يحرص على كل ما يخصه بلا شك، كما أن البحر المتلاطم الأمواج يرغب في كل قطرة جديدة...

ما دمت موجودًا معه، فلتستشعر السرور، وكن حرًا حتى ولو كان الجميع عبيدًا، فإن تستطع روحك أن تسعد به، فسارع بجعل روحك المفعمة بالغم سعيدة به، وسرور الناس في كلا العالمين متعلق به، وانتصاب قبة الفلك متعلق به، ولتعش بعد ذلك متمتعًا بسعادته، وكن كالفلك دوارًا شوقًا إليه، تكلم يا عديم المروءة، فأي شيء أعظم منه، حتى تكون سعيدً معه ولو للحظة واحدة.

إن كنت مشغولًا بالبحث عن العيب، فكيف تستطيع أن تكون مسرورً بمحاسن الغيب؟
فيا باحثًا عن العيب؛ كيف تستطيع رؤية الغيب بعين منقبة عن العيب؟ فتحرر من عيبك أولًا، ثم انعم بالسرور بالعشق المطلق للغيب. إنك تدقق في تقصي عيوب الأخرين، ولكنك في عمى عن إدراك عيوبك، فإن تشغل بعيوب نفسك، فستقبل كل معيب مهما كانت عيوبه!



عندما حانت وفاة أبي علي الرودباري، قال: وقفت روحي على شفتي انتظارًا للرحيل، ففتحت أبواب السماء على مصراعيها، ووضع لي مسند في الجنة، كما غنى الملائكة بأعذب الألحان وصاحوا: "أقبل أيها العاشق، وألهج بالشكر، ثم سر متبخترًا سعيدًا، فما رأى أحد قط هذا المقام". ومع كل هذا الإنعام وذلك التوفيق، فإن روحي لا يد طولى لها في التحقيق.

لذا كان يقول دائمًا: لم أبقيتني عمرًا طويلًا في خضم هذا العمل، وأطلت انتظاري؟ إنني واهنًا حتى أطأطئ الهامة كأهل الشهوة أمام أقل رشوة، فقد امتزج عشقك بروحي، لذا لا علم لي بالنار ولا بالجنة. وإن تحرقني كالرماد، فلن يكون لي معين آخر غيرك، وأنا أعرفك أنت، ولا علم لي بالدين أو الكفر، ولن أحيد عن ذلك، وأنت حاجتي في كلا العالمين، وأنت دنياي في الأولى والأخرة، فحقق لهذا القلب الرقيق كالشعرة حاجته، وكن معي على الوفاق، ولو لحظة، وإن ترتفع روحي فمن أجلك، وليس تحررها مني إلا أملًا في وصالك....





إن كان هناك تفاوت لديك بين ما يأتيك من الله، سواء أكان حجرًا أو جوهرًا، فلست رجل الطريق، وسواء أكنت بالجواهر عزيزيًا، أو بالأحجار ذليلًا، فليس لله بك أي اهتمام، فلا تُعادِ الأحجار أو الجواهر، كما لا تصادقها، وانظر على أنها من صنع يده، فإن يقذفك المعشوق النشوان بحجر، فهذا أفضل من أن تنال جوهرة من غيره، وعلى الرجل أن يكون في مجال الطلب والانتظار، ناثرًا روحه في الطريق في كل زمان، وألا يسكن لحظة عن الطلب، وألا يستريح لحظة، وإذا وهن عزمه عن الطلب زمنًا، فهو في هذا الطريق يكون مرتدًا، عديم الأدب.

العاشق من لا يفكر لحظة في العاقبة، إنما يكون غارقًا في النار كبرق الدنيا، وفي لحظة لا يعرف الكفر ولا الدين، كما لا يعرف ذرة من شك أو يقين، الخير والشر متساويان في طريقه، فإذا جاء العاشق نفسه، فلا وجود لهذا أو ذاك.



العشق نار هناك، أما العقل فدخان، فما أن يقبل العشق حتى يفر العقل مسرعًا، والعقل ليس أستاذًا في مجال العشق، وليس العشق وليد العقل، وحتى لو منحت حق الاطلاع على عالم الغيب، فلن تدرك من أين ينبت هناك أصل العشق.


تقدم! وإلا فالو رأسك وامضِ، وانثر روحك! وإلا فاحرص على روحك وامض، وإن تتقبل بروحك أسرار العشق، فانثر الروح في مضمار العشق، وليكن لك نثر الروح، ثم تعر بعد ذلك، وليبق لك قولة "هيا ادخل" من جميع الأقوال...

كي تصل إلى العرش المجيد، لا تكف مطلقًا عن ترديد: هل من مزيد؟ وأغرق نفسك في بحر العرفان، وغلا فأقل شيء هو أن تنثر التراب على مرفقك.

إن عدمت السعادة في وصل الحبيب، فلا أقل من أن تقيم مأتم الهجران، وإن تحرم من جمال محبوبك، فانهض و لا تجلس، وداوم الطلب بحثًا عن الأسرار، وإن تجهل الطلب، فليتملكك الخجل، وإلا تظل كالحمار بلا زمام؟....

ليس العشق إلا ذرة تقع على من يشرق عليه ألم العشق، فإن كان رجلًا تنجب المرأة منه، وإذا كان امرأة، فحسبها أنها تنجب الرجل، لقد علمت أن المرأة من نسل آدم، وألم تعلم أن الرجل من نسل مريم؟



كل من يكون ثملًا بعالم العرفان، يكون بالنسبة لخلق الدنيا بمثابة السلطان، ويصبح ملك العالم ملكًا له، وتصبح الأفلاك التسعة فلكًا في بحره، وإن يدرك ملوك الأرض طعم جرعة واحدة من ذلك البحر اللانهائي، فإنهم يجلسون جميعًا في مأتم، لما اعتراهم من ألم، وما رأى بعضهم وجوه بعض من شدة هذا الألم.



إذا وصل السالك إلى حد القلب، ووصل في الطريق إلى تلك المرتبة، فإنه يسمع منه كلامًا بينًا، ويبقى وجوده به دومًا، ولن يرى أحدًا قط غيره لحظة، ولن يعرف أحدًا خالدًا سواه، ويكون دائمًا فيه ومنه ومعه.

كل من لا يفنى في بحر الوحدة، غير خليق بالآدمية، حتى ولو كان آدم نفسه، وكل من كان من أهل الفضل، أو من أهل العيب، له شمس في جيب الغيب، وسيأتي يوم في النهاية، وتضمه الشمس إلى حوزتها وترفع النقاب، وكل من وصل إلى شمسه، اعلم يقينًا أنه تخلص من كل حسن وقبيح.



وإن يفنى نجس في بحر الكل، يسقط إلى القاع ذليلًا بصفاته، ولكن إن ينزل إلى هذا البحر رجل طاهر، فسيفني فناء حقيقيًا، ولن يبقى له أثر، حيث تصبح حركته هي حركة البحر. وعندما يفنى، يكون غارقً في مجال الحسن والطهر، وإن يحدث هذا، يكن فانيًا وهو موجود، وهذا يخرج عن نطاق الخيال والعقل.



يا من احتجبت عن السلطان، إنني اعيش في عزلة لأني بعيد عنك، وكم أتألم بسبب غمك وألمك. وما دمت مريضا، فإنني دائم التفكير ولا أدري أأنت عليل أم أنا؟ إن كنت بعيدا بجسدي عنك؟ فإن روحي المشتاقة ترفرف حولك، وهذا حسبي، فيا من أصبحت روحي إليك مشتاقة، إنني لست غائبا عنك دقيقة، وما أكثر ما ارتكبته عين السوء من سوء، إذا أصابت محبوبا مثلك بالسوء

كل ما لديك من حسد وغضب، تراه أعين الناس، لا عينك أنت، وفي داخلك موقد حمام مليء بالتنانين، ولكنها في غفلتك انطلقت من جحرها، وكنت طوال الليل والنهار تربيها، كما كنت مفتونا بأكلها ونومها، فإن كنت ترى سوء طويتك، فلم كنت تجلس هكذا غافل؟
العطار.


لتحطم كل ما تملك من أصنام، حتى تجد بحارًا من الجواهر عوضًا عنها، وأحرق نفسك الشبيهة بالصنم، شوقًا إلى المحبوب، فما أكثر الجواهر التي ستتساقط من جرابها! وإذا ما ترامى إلى أذن الروح صوت ألستُ، فلا تقصر في التصديق، واجعل عهد ألستُ ماثلًا أمامك، ولا تشح عن "بلى" أكثر من هذا. إن كنت أقررت به أولًا، فكيف يصح الإنكار به بعد ذلك؟ ويا من قررت ب "ألستُ" أولًا، أتنكر ألستُ آخرًا؟ وإن كنت قد عقدت ميثاقًا أولًا، فكيف تصبح عاقًا أخيرًا، إنه لا غنى لك عنه، فكن ملازمًا له على الدوام، وكن وفيًا كلما قطعت من وعود، ولا تكن ناشزًا معوجًا.

فمن يسر للسهاد ويطرب، لا يمكن للنوم أن يسيطر على رأسه ولبه، فلا أيها الرجل إن كنت طالبا، أو لينعم عليك الله بالنوم الهانئ، إن كنت بالقول متشدقا

كن على الدوام حارسا في محراب القلب، فما أكثر اللصوص المتربصين بالقلب، وقد انتزع القلب الطريق من أيدي اللصوص، فإذا تم لك التحلي بصفة  الحراسة، فما أسرع ظهور العشق في المعرفة، ففي هذا البحر المليء بالدم، ستنبثق المعرفة للرجل من عدم النوم.


يدرك السالكون في محيط الألم، ماذا يصنع فناء العشق مع الرجال، فيا من اختلط وجودك بالعدم، واختلطت لذاتك بالألم، ما لم تقض فترة في الم واضطراب، فكيف تدرك أي خبر عن وجودك؟ لقد قفزت كالبرق فاتحًا يدك، ولكنك توقفت أمام كومة من الثلج، فأي عمل هذا الذي تفعله تقدم بشجاعة، وأحرق العقل وتقدم كالمجنون، فإن ترغب في فعل هذا السر، فتقدم ذات مرة متفحصًا ولو للحظة، لقد أكثرت من التفكير، فتخل عن نفسك مثلي، وافقد الشعور بالذات لحظة، حتى تصل في النهاية إلى الفقر، وتصل في كمال الذوق إلى الفناء.

من أكون أنا؟ لا بقاء لي ولا لغيري، فشري أعظم من العقل وأعظم كذلك من خيري. لقد فنيت في نفسي دفعة واحدة، ولا حيلة لي غير الذلة والمسكنة، وما أن أشرقت أمامي شمس الفقر، فسرعان ما أدركت أن كِلا العالمين عديما القيمة، وعندما رأيت شعاع هذه الشمس، أصابني الفناء، وهكذا عاد الماء إلى مجاريه، وكل ما حملته وكل ما لعبت به، ألقيت به كله في الماء الآسن، لقد فنيت وصرت إلى العدم، وما بقيت مطلقًا، وأصبحت ظلًّا، وما بقيت مني ذرة واحدة حائرة. وكنت قطرة، ففنيت في بحر الأسرار، ولا أجد اليوم تلك القطرة مرة أخرى، ومع أن الفناء ليس في متناول كل إنسان، فقد فنيت ومثلي كثيرون، ومن ذا الذي لن يصيبه الفناء من بين ساكني العالم من الأرض إلى السماء؟... فلابد من الفناء لهم جميعًا، وسواء قصرت حياتهم أو طالت، لابد من الفناء...



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق