الجمعة، 19 فبراير 2016

شذرات من أحوال رجال الحق من كتاب تذكرة الأولياء: سيدنا الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)


سيدنا الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)
يروى أن داود الطائي مَثَلَ ذات مرة أمام سيدنا الإمام الصادق، وقال: يا ابن رسول الله: عِظني، فقد أظلم قلبي، قال يا أبا سليمان، أنت زاهد هذا الزمان، فأي حاجة لك بموعظتي؟ قال: يا ابن الرسول، لك الفضل على كل الخلائق، وعظة الجميع واجب عليك. قال: يا أبا سليمان، أخاف أن يطرق جدي بابي في القيامة (قائلًا) لماذا لم تؤدي حق متابعتي؟ إن هذا الأمر لا يكون صحيحًا بالنسب وقويًا به، هذا الأمر يكون بالمعاملة اللائقة بحضرة الحق. فبكى داود، وقال: يا إلهي، ذلك الذي معجون طينته من ماء النبوة، وتركيب طبيعته من أصل البرهان، وحجته جده الرسول، وأمه البتول، وهو في هذه الحيرة! فأنى لداود أن يزهو بحاله.

يروى أنه قد جلس ذات مرة مع مواليه، وقال لهم: تعالوا؛ حتى نتبايع، ونتعاهد، بأن كل من ينجو منا يوم القيامة، يشفع للجميع، فقالوا: يا ابن رسول الله، أي حاجة لك بشفاعتنا؟ إن جدك شفيع جميع الخلائق، فقال الصادق: أخجل أن أنظر في وجه جدي يوم القيامة بأفعالي هذه.

يروى أنهم قالوا للصادق: تتحلى بكل الفضائل: الزهد، وكرم الباطن، وقرة العين، والانتساب إلى أسرة شريفة، ولكنك متكبر جدًا، قال: إنني لست متكبرًا لكن الكبر كبرياء، إنني عندما أطحت بالكبر عن رأسي، ساد كبرياؤه هو، وحل محل كبري، فلا يجوز لي أن أتطبر بكبري، لكن بكبريائه هو.

قال: كل معصية كان أولها خوف وآخرها عذر تقرب العبد إلى الحق.
وقال: كل طاعة كان أولها أمن وآخرها عجب تبعد العبد عن الله. لأنه بهذا يصير العبد المطيع بعجب عاصيًا بالنسبة للحق، والعاصي بعذر مطيعًا بالنسبة له.
سئل: أيهما أفضل: فقير صابر أم غني شاكر؟ فقال: الفقير الصابر؛ لأن قلب الغني يتطلع إلى الحافظة، والفقير قلبه مع الله.
وقال: لا تستقيم العبادة إلا بالتوبة، لأن الحق تعالى قدم التوبة على العبادة، كما قال الله تعالى (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ)، وقال: إن ذكر التوبة عند ذكر الله غفلة عن الذكر، وذكر الله في الحقيقة هو: أن ينسى الإنسان كل شيء إلى جانب الله، لأن الله يعوضه عن كل شيء، وقد قال (سبحانه) في هذا المعنى آية (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) وقد محا الواسطة واعلل والأسباب حتى يعلمون أن العطاء محض.

وقال: المؤمن من ثبت مع نفسه، والعارف من ثبت مع ربه.

وقال: كل من يجاهد بالنفس، من أجل نفسه، يدرك الكرامات، وكل من يجاهد بالنفس من أجل ربه، يصل إلى ربه.

وقال: الإلهام من أوصاف المقبولين، والدليل أن عدم الإلهام من علامات المطرودين.

وقال: أليس الله أكثر خفية في العبد من سير نملة على حجر أسود في ليلة مظلمة.

وقال: العشق جنون إلهي لا مذموم، ولا محمود.

وقال: ذلك الوقت الذي انكشف لي فيه سر المشاهدات، خلعوا عليّ صفة الجنون.

وقال: إن من حسن طالع الرجل أن يكون خصمه عاقلًا.

وقال احذر مصاحبة خمسة رجال:
أولًا: الكاذب الذي تكون دائمًا منه على غرور.
ثانيًا: الأحمق الذي يضرك في الوقت الذي يريد فيه أن ينفعك دون أن يدري.
ثالثًا: البخيل الذي يقتطع منك أفضل وقت.
رابعًا: الحقود الذي يتركك ضائعًا عند الشدة.
خامسًا: الفاسق الذي يبيعك بلقمة، وبأقل منها، قالوا: وما أقل منها؟ قال: الطمع فيه.

وقال: للحق (تعالى) في الدنيا جنة وجحيمك الجنة هي العافية، والجحيم هو البلاء، العافية: هي أن تدع أمرك لله، والجحيم: أن تترك أمر الله عليك.

وقال: (من لم يكن له سر فهو مضر) لو كانت صحبة الأعداء ضارة بالأولياء للحق الضرر بآسيا بسبب فرعون، ولو كانت صحبة الأولياء نافعة للأعداء للحقت المنفعة بامرأتي نوح ولوط. ولم يكن ذلك سوى القبض والبسط.



السبت، 6 فبراير 2016

شذرات في العشق الألهي من كتاب منطق الطير





إن تقل بترك الروح، تصبح عاشقًا، سواء كنت زاهدًا أو فاسقًا، وإن يعاد قلبك روحك، فانثر الروح، يأتيك الطريق حتى نهايته، الروح سد في الطريق، فكن للروح ناثرًا، واطرح الحجاب بعد ذلك، وأحسن النظر، وإن يقل لك عن الإيمان تخل، وإن يقل لك عن الروح تخل؛ فانثر هذا وذاك، وقل بترك الإيمان، وكذا عن الروح تخل.


إن يقل منكِر إن هذا أمر مُنكَر، فقل: إن العشق أعلى مكانة من الإيمان والكفر، وأي شأن للعشق مع الكفر والإيمان؟ وأي شأن للعاشقين مع الجسد والروح؟ إن العاشق يشعل النار في كل بيدر، ويوضع المنشار على رأسه، وهوه لائذ بالصمت، لابد للعشق من الألم والغصة، ولا بد للعشق من المشاكل والصعوبات. فيأيها الساقي املأ الكأس بدم الكبد، فإن عدمته، فلتستعره من آلامنا، إذ لابد للعشق من آلام تمزق الحجب، فمزق حجاب الروح أحيانًا وخطه أحيانًا، وذرة عشق تفوق جميع الآفاق، وذرة ألم تفضل جميع العشاق، والعشق لب الكائنات على الدوام، ولكن لا يكون العشق تامًا بلا إيلام.

كل من له قدم في العشق راسخة، قد تخطى الكفر والإسلام معًا، العشق يفتح لك بابًا نحو الفقر، والفقر يظهر لك طريقًا صوب الكفر، وللعشق قرابة بكفرك، وكفرك هو لب فقرك، وإن ضاع منك الكفر والإيمان، فمعنى هذا أن جسدك قد فني وأن روحك قد فاضت. بعد ذلك تكون خليقًا بهذا العمل، إذ لا بد لهذه الأسرار من رجل، فسر في الطريق كالرجال، ولا تخف، وتخل عن الكفر والإيمان، ولا تخف. كثيرًا ما يعتريك الخوف، فتشجع وتخل عن عالم الأطفال، وكن كأشجع الرجال أمام الأعمال، فإن اعترضَتْ طريقك فجأة مئات العقبات، فلا خوف من التعثر في الطريق.

إن يبادر بالعشق من جانبه، فإنك تكون جد لائق بعشقه، أما العشق الصادر عنك، فاعلم أنه يليق بوجهك فقط، وإن يتلاطف معك، فلك أن تكون كالنار من عشقه، الأمر له وليس لك، يا عديم البصر، وأَّنى لجاهل أن يدرك عنه أي خبر؟ ...

عشقه ضرورة لك، وهذه هي الحقيقة، أما عشقك له فغمٌ وهم، إن كان لك عشقه، فاطلبه هو أيضا، ولا تكف يدك عن هذا الطلب مطلقًا، فالعشق القديم يرغب في عشق جديد، كما تطالب الكنوز بالمزيد من الدراهم، والقلب يحرص على كل ما يخصه بلا شك، كما أن البحر المتلاطم الأمواج يرغب في كل قطرة جديدة...

ما دمت موجودًا معه، فلتستشعر السرور، وكن حرًا حتى ولو كان الجميع عبيدًا، فإن تستطع روحك أن تسعد به، فسارع بجعل روحك المفعمة بالغم سعيدة به، وسرور الناس في كلا العالمين متعلق به، وانتصاب قبة الفلك متعلق به، ولتعش بعد ذلك متمتعًا بسعادته، وكن كالفلك دوارًا شوقًا إليه، تكلم يا عديم المروءة، فأي شيء أعظم منه، حتى تكون سعيدً معه ولو للحظة واحدة.

إن كنت مشغولًا بالبحث عن العيب، فكيف تستطيع أن تكون مسرورً بمحاسن الغيب؟
فيا باحثًا عن العيب؛ كيف تستطيع رؤية الغيب بعين منقبة عن العيب؟ فتحرر من عيبك أولًا، ثم انعم بالسرور بالعشق المطلق للغيب. إنك تدقق في تقصي عيوب الأخرين، ولكنك في عمى عن إدراك عيوبك، فإن تشغل بعيوب نفسك، فستقبل كل معيب مهما كانت عيوبه!



عندما حانت وفاة أبي علي الرودباري، قال: وقفت روحي على شفتي انتظارًا للرحيل، ففتحت أبواب السماء على مصراعيها، ووضع لي مسند في الجنة، كما غنى الملائكة بأعذب الألحان وصاحوا: "أقبل أيها العاشق، وألهج بالشكر، ثم سر متبخترًا سعيدًا، فما رأى أحد قط هذا المقام". ومع كل هذا الإنعام وذلك التوفيق، فإن روحي لا يد طولى لها في التحقيق.

لذا كان يقول دائمًا: لم أبقيتني عمرًا طويلًا في خضم هذا العمل، وأطلت انتظاري؟ إنني واهنًا حتى أطأطئ الهامة كأهل الشهوة أمام أقل رشوة، فقد امتزج عشقك بروحي، لذا لا علم لي بالنار ولا بالجنة. وإن تحرقني كالرماد، فلن يكون لي معين آخر غيرك، وأنا أعرفك أنت، ولا علم لي بالدين أو الكفر، ولن أحيد عن ذلك، وأنت حاجتي في كلا العالمين، وأنت دنياي في الأولى والأخرة، فحقق لهذا القلب الرقيق كالشعرة حاجته، وكن معي على الوفاق، ولو لحظة، وإن ترتفع روحي فمن أجلك، وليس تحررها مني إلا أملًا في وصالك....





إن كان هناك تفاوت لديك بين ما يأتيك من الله، سواء أكان حجرًا أو جوهرًا، فلست رجل الطريق، وسواء أكنت بالجواهر عزيزيًا، أو بالأحجار ذليلًا، فليس لله بك أي اهتمام، فلا تُعادِ الأحجار أو الجواهر، كما لا تصادقها، وانظر على أنها من صنع يده، فإن يقذفك المعشوق النشوان بحجر، فهذا أفضل من أن تنال جوهرة من غيره، وعلى الرجل أن يكون في مجال الطلب والانتظار، ناثرًا روحه في الطريق في كل زمان، وألا يسكن لحظة عن الطلب، وألا يستريح لحظة، وإذا وهن عزمه عن الطلب زمنًا، فهو في هذا الطريق يكون مرتدًا، عديم الأدب.

العاشق من لا يفكر لحظة في العاقبة، إنما يكون غارقًا في النار كبرق الدنيا، وفي لحظة لا يعرف الكفر ولا الدين، كما لا يعرف ذرة من شك أو يقين، الخير والشر متساويان في طريقه، فإذا جاء العاشق نفسه، فلا وجود لهذا أو ذاك.



العشق نار هناك، أما العقل فدخان، فما أن يقبل العشق حتى يفر العقل مسرعًا، والعقل ليس أستاذًا في مجال العشق، وليس العشق وليد العقل، وحتى لو منحت حق الاطلاع على عالم الغيب، فلن تدرك من أين ينبت هناك أصل العشق.


تقدم! وإلا فالو رأسك وامضِ، وانثر روحك! وإلا فاحرص على روحك وامض، وإن تتقبل بروحك أسرار العشق، فانثر الروح في مضمار العشق، وليكن لك نثر الروح، ثم تعر بعد ذلك، وليبق لك قولة "هيا ادخل" من جميع الأقوال...

كي تصل إلى العرش المجيد، لا تكف مطلقًا عن ترديد: هل من مزيد؟ وأغرق نفسك في بحر العرفان، وغلا فأقل شيء هو أن تنثر التراب على مرفقك.

إن عدمت السعادة في وصل الحبيب، فلا أقل من أن تقيم مأتم الهجران، وإن تحرم من جمال محبوبك، فانهض و لا تجلس، وداوم الطلب بحثًا عن الأسرار، وإن تجهل الطلب، فليتملكك الخجل، وإلا تظل كالحمار بلا زمام؟....

ليس العشق إلا ذرة تقع على من يشرق عليه ألم العشق، فإن كان رجلًا تنجب المرأة منه، وإذا كان امرأة، فحسبها أنها تنجب الرجل، لقد علمت أن المرأة من نسل آدم، وألم تعلم أن الرجل من نسل مريم؟



كل من يكون ثملًا بعالم العرفان، يكون بالنسبة لخلق الدنيا بمثابة السلطان، ويصبح ملك العالم ملكًا له، وتصبح الأفلاك التسعة فلكًا في بحره، وإن يدرك ملوك الأرض طعم جرعة واحدة من ذلك البحر اللانهائي، فإنهم يجلسون جميعًا في مأتم، لما اعتراهم من ألم، وما رأى بعضهم وجوه بعض من شدة هذا الألم.



إذا وصل السالك إلى حد القلب، ووصل في الطريق إلى تلك المرتبة، فإنه يسمع منه كلامًا بينًا، ويبقى وجوده به دومًا، ولن يرى أحدًا قط غيره لحظة، ولن يعرف أحدًا خالدًا سواه، ويكون دائمًا فيه ومنه ومعه.

كل من لا يفنى في بحر الوحدة، غير خليق بالآدمية، حتى ولو كان آدم نفسه، وكل من كان من أهل الفضل، أو من أهل العيب، له شمس في جيب الغيب، وسيأتي يوم في النهاية، وتضمه الشمس إلى حوزتها وترفع النقاب، وكل من وصل إلى شمسه، اعلم يقينًا أنه تخلص من كل حسن وقبيح.



وإن يفنى نجس في بحر الكل، يسقط إلى القاع ذليلًا بصفاته، ولكن إن ينزل إلى هذا البحر رجل طاهر، فسيفني فناء حقيقيًا، ولن يبقى له أثر، حيث تصبح حركته هي حركة البحر. وعندما يفنى، يكون غارقً في مجال الحسن والطهر، وإن يحدث هذا، يكن فانيًا وهو موجود، وهذا يخرج عن نطاق الخيال والعقل.



يا من احتجبت عن السلطان، إنني اعيش في عزلة لأني بعيد عنك، وكم أتألم بسبب غمك وألمك. وما دمت مريضا، فإنني دائم التفكير ولا أدري أأنت عليل أم أنا؟ إن كنت بعيدا بجسدي عنك؟ فإن روحي المشتاقة ترفرف حولك، وهذا حسبي، فيا من أصبحت روحي إليك مشتاقة، إنني لست غائبا عنك دقيقة، وما أكثر ما ارتكبته عين السوء من سوء، إذا أصابت محبوبا مثلك بالسوء

كل ما لديك من حسد وغضب، تراه أعين الناس، لا عينك أنت، وفي داخلك موقد حمام مليء بالتنانين، ولكنها في غفلتك انطلقت من جحرها، وكنت طوال الليل والنهار تربيها، كما كنت مفتونا بأكلها ونومها، فإن كنت ترى سوء طويتك، فلم كنت تجلس هكذا غافل؟
العطار.


لتحطم كل ما تملك من أصنام، حتى تجد بحارًا من الجواهر عوضًا عنها، وأحرق نفسك الشبيهة بالصنم، شوقًا إلى المحبوب، فما أكثر الجواهر التي ستتساقط من جرابها! وإذا ما ترامى إلى أذن الروح صوت ألستُ، فلا تقصر في التصديق، واجعل عهد ألستُ ماثلًا أمامك، ولا تشح عن "بلى" أكثر من هذا. إن كنت أقررت به أولًا، فكيف يصح الإنكار به بعد ذلك؟ ويا من قررت ب "ألستُ" أولًا، أتنكر ألستُ آخرًا؟ وإن كنت قد عقدت ميثاقًا أولًا، فكيف تصبح عاقًا أخيرًا، إنه لا غنى لك عنه، فكن ملازمًا له على الدوام، وكن وفيًا كلما قطعت من وعود، ولا تكن ناشزًا معوجًا.

فمن يسر للسهاد ويطرب، لا يمكن للنوم أن يسيطر على رأسه ولبه، فلا أيها الرجل إن كنت طالبا، أو لينعم عليك الله بالنوم الهانئ، إن كنت بالقول متشدقا

كن على الدوام حارسا في محراب القلب، فما أكثر اللصوص المتربصين بالقلب، وقد انتزع القلب الطريق من أيدي اللصوص، فإذا تم لك التحلي بصفة  الحراسة، فما أسرع ظهور العشق في المعرفة، ففي هذا البحر المليء بالدم، ستنبثق المعرفة للرجل من عدم النوم.


يدرك السالكون في محيط الألم، ماذا يصنع فناء العشق مع الرجال، فيا من اختلط وجودك بالعدم، واختلطت لذاتك بالألم، ما لم تقض فترة في الم واضطراب، فكيف تدرك أي خبر عن وجودك؟ لقد قفزت كالبرق فاتحًا يدك، ولكنك توقفت أمام كومة من الثلج، فأي عمل هذا الذي تفعله تقدم بشجاعة، وأحرق العقل وتقدم كالمجنون، فإن ترغب في فعل هذا السر، فتقدم ذات مرة متفحصًا ولو للحظة، لقد أكثرت من التفكير، فتخل عن نفسك مثلي، وافقد الشعور بالذات لحظة، حتى تصل في النهاية إلى الفقر، وتصل في كمال الذوق إلى الفناء.

من أكون أنا؟ لا بقاء لي ولا لغيري، فشري أعظم من العقل وأعظم كذلك من خيري. لقد فنيت في نفسي دفعة واحدة، ولا حيلة لي غير الذلة والمسكنة، وما أن أشرقت أمامي شمس الفقر، فسرعان ما أدركت أن كِلا العالمين عديما القيمة، وعندما رأيت شعاع هذه الشمس، أصابني الفناء، وهكذا عاد الماء إلى مجاريه، وكل ما حملته وكل ما لعبت به، ألقيت به كله في الماء الآسن، لقد فنيت وصرت إلى العدم، وما بقيت مطلقًا، وأصبحت ظلًّا، وما بقيت مني ذرة واحدة حائرة. وكنت قطرة، ففنيت في بحر الأسرار، ولا أجد اليوم تلك القطرة مرة أخرى، ومع أن الفناء ليس في متناول كل إنسان، فقد فنيت ومثلي كثيرون، ومن ذا الذي لن يصيبه الفناء من بين ساكني العالم من الأرض إلى السماء؟... فلابد من الفناء لهم جميعًا، وسواء قصرت حياتهم أو طالت، لابد من الفناء...



الخميس، 4 فبراير 2016

حكاية: في صفة وادي الحيرة.

حكاية: في صفة وادي الحيرة.
ذلك الملك الذي كانت الآفاق تحت إمرته، كانت لديه فتاة جميلة كالقمر تعيش في بلاطه، كانت كملاك رائع الجمال في الحسن، أو كالربيع والسرو في الملاحة والحسن، وكم جرحت مئات القلوب بطرتها، فكل شعرة منها عرق ترتبط به روح، ووجهًا يبدو كالفردوس، كما يبدو حاجبها وكأنه القوس، ولما كانت السهام تنطلق من هذا القوس، فقد أقبل قاب قوسين مثنيًا عليها، أما عينها الشبيهة بالنرجسة الثملة المحاط بأهداب شوكية، فقد أردت الكثيرين من أهل الحجا والعقل، ووجه الشبيهة بالعذراء هذه، في جمال شمس الفلك، بل إنه يفوق في الحسن بدر الفلك، ودرها وياقوتها وهما قوت الروح، قد جعلا الروح القدس في دهشة على الدوام، وإذا تبسمت شفتاها، مات الحياة صاديًا، وطلب الإِحسان والإِنعام من شفتيها، وكل من أدام النظر إلى ذقنها، سقط منكس الرأس في قعر نونها، وكل من أصبح أسير وجهها القمري، سرعان ما تردي في نونها بلا رسن..
أخيرًا مثل أمام السلطان غلام في جمال البدر، ليتولى الخدمة، وما كان يتمتع به هذا الغلام من الجمال، قد أصاب الشمس والقمر بالمحاق والزوال، وفي بسيط عالمه لا قرين له، وفي الحسن الفتان لا مثيل له، ومئات الألوف من الخلق في السوق والمحلة. قد بهرهم ذلك الوجه كالشمس.
وقضاء وقدرًا رأت تلك الفتاة ذات يوم وجه غلام السلطان، ففقدت السيطرة على قلبها وغاصت في الأحزان، وتوارى عقلها وراء الحجب، لقد ذهب العقل واشتد بها العشق، وأصيبت روحها بالمرارة والألم، وتملكها التفكير والتدبير وقتًا من الزمن، وفقدت في النهاية الراحة والاستقرار. وذابت شوقًا، كما احترقت بألم الفراق، وغص قلبها بالألم بسبب الذوبان والحرقة والاشتياق، وكان لها عشر مطربات من الجواري الحسان، وكن على مرتبة عالية في ترديد الأغاني، فكن في العزف كالبلبل الصداح، ولحنهن الداودي كان يسعد الأرواح، فشرحت لهن حالها في التو والحال، وأقرت بفناء الاسم والشهرة والروح، فكل من يتضح له عشق الأحبة، كيف تستطيع روحه الاستقرار في موضعها، وقالت:
إن أُفصح للغلام عن عشقي، يكن خطأً كبيرًا، لأن هذا بعيد عن الصواب، كما أن الحشمة تصيبني بالكثير من المضار، وأنى لهذا الغلام أن يصل من مثلي؟ وإن لم أفصح عن قصتي، أمت خلف الحجب متألمة متأوهة، لقد قرأت زهاء مائة كتاب أملًا في الصبر! فماذا أفعل؟ لقد نفذ صبري كما أصبحت عاجزة. وما أبغيه من سَرَويّ القد، أُدرك أنه لا علم له به، فإن يتم تحقيق مقصودي هذا، فإن أمر روحي يكون وفق مرادي.
عندما سمعت المطربات هذا القول، قلن لها: لا تحزني! بالليل نحضره خفية أمامك، ولن يكون لديه أي خبر عن ذلك.
وأخيرًا ذهبت إحداهن متخفية أمام الغلام، وقالت: الآن أقدم له الخمر والكأس وأضع الخمر دواء مذهبًا للعقل، فلا جرم أن يسري في أوصاله فقدان الشعور.
ما أن احتسى الغلام ذلك الخمر، حتى فقد صوابه، وهكذا كلل سعي تلك الجارية الفاتنة بالنجاح، وظل الغلام الفضي الصدر ثملًا، لا يعرف شيئًا عن كلا العالمين، وذلك طوال اليوم حتى المساء.
ما أن أقبل الليل حتى جاءت الجواري صوبه في حذر واضطراب، ثم وضعته في فراشه، وحملنه خفية إلى تلك الفتاة، وبسرعة أجلسنه على العرش ونثرن عليه ماء الورد والمسك.
وفي منتصف الليل عندما بات الغلام نصف مفيق، فتح عينيه الشبيهتين بالنرجسة عن آخرهما فرأى قصرًا يشبه الفردوس في روائه، ورأى عرشًا ذهبيًاّ يحيط به، وقد اشتعلت عشر شموع عنبرية أكثر مما تشتعل أعواد الحطب، وشغلت الفتيات بالطرب والإِنشاد، حتى ودع العقل الروح، وودعت الروح الجسد. وكانت الفتاة تجلس وسط الجميع كأنها الشمس بفعل نور الشمع، فجلس الغلام يتملكه السرور والفرح، وفقد نفسه أمام طلعة الفتاة، وظل حائرًا فاقدًا العقل والروح، بعيدً عن إدراك هذا العالم أو ذاك، وامتلأ قلبه عشقًا، وعجز لسانه عن النطق، وأدركت روحه الحال من الذوق، وتعلقت عيناه بوجه الفتاة وأنصتت أذناه إلى صوت الألحان، وتنسمت مشامه رائحة العنبر.
وأخيرًا خرجت أنفاسه أكثر لهيبًا من النار، فأسرعت الفتاة وأعطته كأس خمر في الحال، كما جعلت القُبلة نُقل الشراب، فظلت عينه معلقة بطلعتها، ودهمته الحيرة من التطلع إلى وجهها، ولما لم ينطق لسانه بكلمة، ذرفت الفتاة الدمع، وحكت رأسها جزعًا، وهكذا ظلت الفتاة الفاتنة تذرف الدمع غزيرًا منسابًا على وجنتيها، كما كانت تُقَبِلُهُ قُبلة كالسُكر أحيانًا أو تضع الملح في القبلة بلا شفقة أحيانًا، وأحيانًا تداعبه بطرتها المضطربتين، وأحيانًا، تفقد نفسها في عينيه الساحرتين.
ظل الغلام الثمل أمام الفتاة الجذابة محدقًا عينيه، لكنه ليس في صحو ولا غيبة، وظل الغلام على هذه النظرة، حتى أقبل الصباح بإشراقه تامة. وما أن أقبل الصبح وهبت نسائم الصباح، حتى فقد الغلام كل وعيه مما به من سُكر، وما أن نام الغلام العالي المنزلة، حتى أسرعن بحمله إلى مكانه مرة أخرى.
ما أن ثاب الغلام الفضي الصدر إلى رشده آخر الأمر، حتى تملكه الاضطراب ولم يعلم حقيقة ما حدث له، وكيف حدث ما حدث، ولكن أي جدوى له من الاضطراب؟ وعلى الرغم من أنه لم يصب بأي آلام أو مضرة، فقد تصبب عرقًا من الرأس إلى القدم، فضرب بيده ثوبه ومزقه، واقتلع شعره، ونثر التراب على رأسه، فسألوه عن القصة فقال:
إنني لا أستطيع ترديد ما حدث، لأن ما رأيته وأنا ثمل نشوان، لا يمكن أن يراه في منامه أي إنسان، وتلك الأمور التي تركتني في وحدتي حيران، لا أعلم أنها حدثت لإنسان، وما رأيته لا أستطيع التعبير عنه، ولا يوجد سرٌّ أعجب مما حدث.
فقال الجميع: ثب إلى رشدك في النهاية. واذكر ولو قليلًا من الكثير الذي رأيته.
فقال: قلد ألم بي العجز كأي مضطرب، ولا أعلم هل رأيت كل ذلك، أم رأيت شيئًا آخر؟
كما أنني لا أعلم هل رأيته مما بي سُكر، أم سمعته وأنا في صحو ورشد؟  وهل سمعت كل شيء أم لم أسمع شيئًا؟ وهل رأيت كل شيء، أم لم أرَ شيئًا؟
فقال له أحد العقلاء: لقد رأيت حلمًا، فلم يتملكك الاضطراب والجنون؟

قال: لا أعلم إذا كان ما رايته في عالم الوهم أو في عالم اليقظة، ولا حال أعجب من هذا في الدنيا، فهذه حالة لا واضحة ولا خفية، ولا أستطيع القول، كما لا أستطيع الصمت، وأنا في دهشة بين هذا وذاك. ولن يمحى ذلك الزمان من روحي، كما أنني لا أجد ذرة تدلني عليه، لقد رأيت صاحبة جمال، لا يضاهيها أحد في كمالها بأي حال، وليست الشمس أمام طلعتها إلا ذرة، والله أعلم بالصواب، وكيف أتكلم أكثر من هذا وأنا لا أعرف حقيقة ما حدث، وعلى رغم من أنني قد رأيتها من قبل، ولكن لا اعلم هل رأيتها أو لم ارها؟ وها أنذا مضطرب بين هذا وذاك!
من كتاب منطق الطير- فريد الدين العطار

الأربعاء، 3 فبراير 2016

حكاية: في العشق الألهي

حكاية:
كان أحد العاشقين يبكي ساعة موته، فسئل: لم هذا البكاء؟
قال: إنني أبكي بكاء سحابة الربيع، إذ يجب الإحساس بالألم في هذه اللحظة، كما يجوز لي النواح الآن، إذ كيف يموت قلبي وهو متعلق به؟
قال له أحد جلسائه: إذا كان قلبك متعلقًا به، فإن تمت، كان فضلًا وخيرًا....
فقال العاشق: كيف يموت كل من تعلق قلبه بالله؟ وكيف يكون الموت من نصيبه؟ وإذا كان قلبي في وصل دائم معه، فإن موتي يكون غاية في المحال....

إن سررت بهذا السر لحظة، فليس لهذا الكنز مثيل في هذه الحياة، وكل من تملكه السرور من وجوده، انمحى من الوجود وتحرر منه، ولكن ليتملكك السرور من حبيبك على الدوام، حتى لا تتساوى مع الطين في داخلك.
فريد الدين العطار-منطق الطير