حكاية: في صفة
وادي الحيرة.
ذلك الملك الذي
كانت الآفاق تحت إمرته، كانت لديه فتاة جميلة كالقمر تعيش في بلاطه، كانت كملاك
رائع الجمال في الحسن، أو كالربيع والسرو في الملاحة والحسن، وكم جرحت مئات القلوب
بطرتها، فكل شعرة منها عرق ترتبط به روح، ووجهًا يبدو كالفردوس، كما يبدو حاجبها وكأنه
القوس، ولما كانت السهام تنطلق من هذا القوس، فقد أقبل قاب قوسين مثنيًا عليها،
أما عينها الشبيهة بالنرجسة الثملة المحاط بأهداب شوكية، فقد أردت الكثيرين من أهل
الحجا والعقل، ووجه الشبيهة بالعذراء هذه، في جمال شمس الفلك، بل إنه يفوق في
الحسن بدر الفلك، ودرها وياقوتها وهما قوت الروح، قد جعلا الروح القدس في دهشة على
الدوام، وإذا تبسمت شفتاها، مات الحياة صاديًا، وطلب الإِحسان والإِنعام من
شفتيها، وكل من أدام النظر إلى ذقنها، سقط منكس الرأس في قعر نونها، وكل من أصبح
أسير وجهها القمري، سرعان ما تردي في نونها بلا رسن..
أخيرًا مثل أمام
السلطان غلام في جمال البدر، ليتولى الخدمة، وما كان يتمتع به هذا الغلام من
الجمال، قد أصاب الشمس والقمر بالمحاق والزوال، وفي بسيط عالمه لا قرين له، وفي
الحسن الفتان لا مثيل له، ومئات الألوف من الخلق في السوق والمحلة. قد بهرهم ذلك
الوجه كالشمس.
وقضاء وقدرًا رأت تلك
الفتاة ذات يوم وجه غلام السلطان، ففقدت السيطرة على قلبها وغاصت في الأحزان،
وتوارى عقلها وراء الحجب، لقد ذهب العقل واشتد بها العشق، وأصيبت روحها بالمرارة
والألم، وتملكها التفكير والتدبير وقتًا من الزمن، وفقدت في النهاية الراحة
والاستقرار. وذابت شوقًا، كما احترقت بألم الفراق، وغص قلبها بالألم بسبب الذوبان
والحرقة والاشتياق، وكان لها عشر مطربات من الجواري الحسان، وكن على مرتبة عالية
في ترديد الأغاني، فكن في العزف كالبلبل الصداح، ولحنهن الداودي كان يسعد الأرواح،
فشرحت لهن حالها في التو والحال، وأقرت بفناء الاسم والشهرة والروح، فكل من يتضح
له عشق الأحبة، كيف تستطيع روحه الاستقرار في موضعها، وقالت:
إن أُفصح للغلام
عن عشقي، يكن خطأً كبيرًا، لأن هذا بعيد عن الصواب، كما أن الحشمة تصيبني بالكثير
من المضار، وأنى لهذا الغلام أن يصل من مثلي؟ وإن لم أفصح عن قصتي، أمت خلف الحجب متألمة
متأوهة، لقد قرأت زهاء مائة كتاب أملًا في الصبر! فماذا أفعل؟ لقد نفذ صبري كما
أصبحت عاجزة. وما أبغيه من سَرَويّ القد، أُدرك أنه لا علم له به، فإن يتم تحقيق
مقصودي هذا، فإن أمر روحي يكون وفق مرادي.
عندما سمعت المطربات
هذا القول، قلن لها: لا تحزني! بالليل نحضره خفية أمامك، ولن يكون لديه أي خبر عن
ذلك.
وأخيرًا ذهبت
إحداهن متخفية أمام الغلام، وقالت: الآن أقدم له الخمر والكأس وأضع الخمر دواء
مذهبًا للعقل، فلا جرم أن يسري في أوصاله فقدان الشعور.
ما أن احتسى الغلام
ذلك الخمر، حتى فقد صوابه، وهكذا كلل سعي تلك الجارية الفاتنة بالنجاح، وظل الغلام
الفضي الصدر ثملًا، لا يعرف شيئًا عن كلا العالمين، وذلك طوال اليوم حتى المساء.
ما أن أقبل الليل
حتى جاءت الجواري صوبه في حذر واضطراب، ثم وضعته في فراشه، وحملنه خفية إلى تلك
الفتاة، وبسرعة أجلسنه على العرش ونثرن عليه ماء الورد والمسك.
وفي منتصف الليل
عندما بات الغلام نصف مفيق، فتح عينيه الشبيهتين بالنرجسة عن آخرهما فرأى قصرًا
يشبه الفردوس في روائه، ورأى عرشًا ذهبيًاّ يحيط به، وقد اشتعلت عشر شموع عنبرية
أكثر مما تشتعل أعواد الحطب، وشغلت الفتيات بالطرب والإِنشاد، حتى ودع العقل الروح،
وودعت الروح الجسد. وكانت الفتاة تجلس وسط الجميع كأنها الشمس بفعل نور الشمع،
فجلس الغلام يتملكه السرور والفرح، وفقد نفسه أمام طلعة الفتاة، وظل حائرًا فاقدًا
العقل والروح، بعيدً عن إدراك هذا العالم أو ذاك، وامتلأ قلبه عشقًا، وعجز لسانه
عن النطق، وأدركت روحه الحال من الذوق، وتعلقت عيناه بوجه الفتاة وأنصتت أذناه إلى
صوت الألحان، وتنسمت مشامه رائحة العنبر.
وأخيرًا خرجت أنفاسه
أكثر لهيبًا من النار، فأسرعت الفتاة وأعطته كأس خمر في الحال، كما جعلت القُبلة
نُقل الشراب، فظلت عينه معلقة بطلعتها، ودهمته الحيرة من التطلع إلى وجهها، ولما
لم ينطق لسانه بكلمة، ذرفت الفتاة الدمع، وحكت رأسها جزعًا، وهكذا ظلت الفتاة
الفاتنة تذرف الدمع غزيرًا منسابًا على وجنتيها، كما كانت تُقَبِلُهُ قُبلة كالسُكر
أحيانًا أو تضع الملح في القبلة بلا شفقة أحيانًا، وأحيانًا تداعبه بطرتها
المضطربتين، وأحيانًا، تفقد نفسها في عينيه الساحرتين.
ظل الغلام الثمل
أمام الفتاة الجذابة محدقًا عينيه، لكنه ليس في صحو ولا غيبة، وظل الغلام على هذه
النظرة، حتى أقبل الصباح بإشراقه تامة. وما أن أقبل الصبح وهبت نسائم الصباح، حتى
فقد الغلام كل وعيه مما به من سُكر، وما أن نام الغلام العالي المنزلة، حتى أسرعن
بحمله إلى مكانه مرة أخرى.
ما أن ثاب الغلام
الفضي الصدر إلى رشده آخر الأمر، حتى تملكه الاضطراب ولم يعلم حقيقة ما حدث له،
وكيف حدث ما حدث، ولكن أي جدوى له من الاضطراب؟ وعلى الرغم من أنه لم يصب بأي آلام
أو مضرة، فقد تصبب عرقًا من الرأس إلى القدم، فضرب بيده ثوبه ومزقه، واقتلع شعره،
ونثر التراب على رأسه، فسألوه عن القصة فقال:
إنني لا أستطيع
ترديد ما حدث، لأن ما رأيته وأنا ثمل نشوان، لا يمكن أن يراه في منامه أي إنسان،
وتلك الأمور التي تركتني في وحدتي حيران، لا أعلم أنها حدثت لإنسان، وما رأيته لا
أستطيع التعبير عنه، ولا يوجد سرٌّ أعجب مما حدث.
فقال الجميع: ثب
إلى رشدك في النهاية. واذكر ولو قليلًا من الكثير الذي رأيته.
فقال: قلد ألم بي
العجز كأي مضطرب، ولا أعلم هل رأيت كل ذلك، أم رأيت شيئًا آخر؟
كما أنني لا أعلم
هل رأيته مما بي سُكر، أم سمعته وأنا في صحو ورشد؟ وهل سمعت كل شيء أم لم أسمع شيئًا؟ وهل رأيت كل
شيء، أم لم أرَ شيئًا؟
فقال له أحد
العقلاء: لقد رأيت حلمًا، فلم يتملكك الاضطراب والجنون؟
قال: لا أعلم إذا كان
ما رايته في عالم الوهم أو في عالم اليقظة، ولا حال أعجب من هذا في الدنيا، فهذه
حالة لا واضحة ولا خفية، ولا أستطيع القول، كما لا أستطيع الصمت، وأنا في دهشة بين
هذا وذاك. ولن يمحى ذلك الزمان من روحي، كما أنني لا أجد ذرة تدلني عليه، لقد رأيت
صاحبة جمال، لا يضاهيها أحد في كمالها بأي حال، وليست الشمس أمام طلعتها إلا ذرة،
والله أعلم بالصواب، وكيف أتكلم أكثر من هذا وأنا لا أعرف حقيقة ما حدث، وعلى رغم
من أنني قد رأيتها من قبل، ولكن لا اعلم هل رأيتها أو لم ارها؟ وها أنذا مضطرب بين
هذا وذاك!
من كتاب منطق الطير- فريد الدين العطار