في ذكر الولاية الخاصة والعامة
ذكر الشيخ عبد القادر العيدروس في كتابه (الزهر الباسم) حيث فيه ذكر الولاية الخاصة والعامة قال: روي عن الشيخ الكبير العارف بالله تعالى محمد بن أحمد البلخي قدس سره قال: سافرت من بلخ الى بغداد وأنا شاب لأرى الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس سره العظيم، فوافيته يصلي العصر بمدرسته، وما كنت رأيته ولا رآني قبل ذلك، فلما سلم من الصلاة وهرع الناس للسلام عليه، تقدمت إليه فصافحته فأمسك بيدي ونظر إليَّ مبتسمًا وقال: مرحبًا بك يا بلخي يا محمد قد رأَى الله مكانك وعلم نيتك، قال: فكان كلامه دواء الجريح وشفاء العليل وذرفت عيناي خيفة وارتعدت فرائصي هيبةً وخفقت أحشائي شوقًا ومحبة واستوحشت نفسي من الخلق ووجدت في قلبي أمرًا لا أحسن أعبر عنه ثم ما زال ذلك ينمو ويقوى وأنا أغالبه فلما كان ذات ليلة قمت إلى وردي وكانت ليلة مظلمة فبرز لي من قلبي شخصان بيد أحدهما كأس وبيد الأخر خلعة.
فقال لي صاحب الخلعة: أنا علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وهذا أحد الملائكة المقربين وهذا كأس شراب المحبة وهذه خلعة من خلع الرضى، ثم ألبسني تلك الخلعة وناولني صاحبه الكأس فأضاء بنوره المشرق والمغرب، فلما شربته كشف لي عن أسرار الغيوب ومقامات أولياء الله تعالى وغير ذلك من العجائب.
فكان مما رأيت مقامًا تزل أقدام العقول في سره وإفهام الأفكار في حاله وتخضع رقاب الأولياء لهيبته وتذهل أسرار السرائر في بصائره وتدهش أبصار لأشعة أنواره، ولم يبق طائفة من الملائكة الكروبين والروحانيين والمقربين إلا حنت ظهورها على هيئة الراكع تعظيمًا لقدر ذلك المقام.
ويتحقق الناظر إليه أن كل مقام لواصل أو حال لمحدث أو سر لمحبوب أو علم لعارف أو تصرف لولي أو تمكن لمقرب فمبدؤه وجملته وتفصيله وكله وبعضه وأوله وآخره فيه استقر ومنه نشأ وعنه صدر وبه كمل فمكثت مدة لا أستطيع النظر إليه ثم طوقت النظر إليه ومكثت مدة لا أستطيع مسامته ثم طوقت مسامته، ومكثت مدة لا أعلم بمن فيه ثم بعد مدة علمت بمن فيه فإذا فيه سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن يمينه آدم وإبراهيم وجبريل وعن شماله نوح وموسى وعيسى عليهم السلام، وبين يديه أكابر الصحابة رضي الله عنهم والأولياء قدس الله أسرارهم قيامًا على هيئة الحلقة كأن على رؤوسهم الطير من هيبته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وكان ممن عرفت منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة والعباس رضي الله تعالى عنهم، وممن عرفت من الأولياء معروف الكرخي وسري السقطي والجنيد البغدادي وسهل التستري وتاج العارفين أبو الوفا والباز الأشهب عبد القادر الجيلاني والشيخ عدي والشيخ أحمد الرفاعي قدس الله أسرارهم.
وكان من أقرب الصحابة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أبو بكر، ومن أقرب الأولياء سيدنا الشيخ عبد القادر الجيلاني، فسمعت قائلًا يقول: إذا اشتاقت الملائكة المقربون والأنبياء المرسلون والأولياء المحبوبون إلى رؤية الحبيب محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ينزل من مقامه الأعلى عند ربه الذي لا يستطيع النظر إليه أحد في هذا المقام فتضاعف أنوارهم برؤيته، وتزكو أحوالهم بمشاهدته، ويعلو مكانهم ومقاماتهم ببركته، ثم يعود إلى الرفيق الأعلى قال: فسمعت الكل يقول (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) ]البقرة 285[.
ثم بدت لي بارقة من القدس الأعظم فغيبتني عن كل مشهود واختطفتني عن كل موجود وأسقطت مني التمييز بين مختلفين فأقمت على هذه الحال ثلاث سنين فلم أشعر إلا وانا في سامرّا والشيخ عبد القادر الجيلاني قدس سره قابض على صدري وإحدى رجليه عندي والأخرى في بغداد وقد عاد إليّ تمييزي وملكت أمري فقال لي: يا بلخي قد أُمرت أردك إلى وجودك وأملكك حالك، وأسلب عنك ما قهرك.
ثم أخبرني بجميع مشاهداتي وأحوالي من مبدأ أمري إلى ذلك الوقت إخبارًا يدل على اطلاعه عليّ في كل نفس.
وقال لي: سأَلت سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سبع مرات حتى طوقت النظر إلى ذلك المقام وسبع مرات حتى طوقت مسامته، وسبع مرات حتى أطلعت على ما فيه، وسبع مرات حتى سمعت المنادي وقد سألت الله سبحانه فيك سبع مرات وسبع مرات وسبع مرات حتى لاحت لك تلك البارقة وكنت من قبل سألتُهُ فيكَ سبعين مرة حتى سقاك كأسًا من محبته وألبسك خلعة من رضوانه يا بني اقض جميع ما فاتك من الفرائض.
من جواهر البحار-ج2-النبهاني
مسامته] أي: محاذاة [