الأحد، 5 يناير 2014

كيفية المحبة


 يقول المتصوفة المحبة على ستة أوجهٍ محبةٌ شهوانية ومحبة مَوَدَتيه ومحبة دُنياوية ومحبة تَوَبتيه ومحبة طينية أو طبيعية ومحبة عيانيه(عنايتيه) فأما الشهوانية كمحبة زليخا ليوسف عليه السلام وإنها توريث الفضيحة كما أورثت زليخا لقوله سبحانه وتعالى في سورة اليوسف أية (51) (ٱلْـَٔـٰنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَا۠ رَ‌ٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفْسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ)، وأما المودتيةُ كمحبة المهاجرين والأنصار في قوله تعالى في سورة الحشر أية (9) (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) تورث الفلاح وفي قوله تعالى في نفس الأية(فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ)، وأما التوبتية فإنها توريث المدح كقوله تعالى في سورة البقرو أية (222) (إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّ‌ٰبِينَ)، وأما الطينية أو(الطبيعية) فإنها توريث العقوبة في قوله تعالى سورة الأنبياء أية(98) (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)، وأما العيانية (العنايتيه) كقوله سبحانه وتعالى لسيدنا محمد صل الله تعالى عليه وآله وسلم في سورة آل عمران أية (37)( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ) فإنها تورث الدنوا والقرب لقوله تعالى في سورة النجم أية(8،9) (ُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ﴿٨﴾ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ)، قال أبو قاسم الفرازبادي المحبةُ والمنةُ لفظتان مقتربتان فعين المحبةِ عين المحنة وعينُ المحنةِ عين المحبّةَ فينبغي أن ينظر الى المحنة بعين المحبة حتى يصبح له المحبة بين المحبين.

شعر:

بين المحبين سرٌ ليس يفشيه*قولٌ ولا قَلَمٌ للخلقِ يحكيهِ

الحُبُ حرفان حاءٌ وباءٌ والحاءُ آخر حروف الروح والباءُ أول حروف من البدن فمن صحت له المحبةُ خرج من الروح والبدن فيكون روحاً بلا بدن وبدناً بِلا روح ولكل شيءٍ عبارة إلا المحبّة فإنها لا عبارة لها وهي ألطف وأجلّ من ان يدخل في العبارة ولذلك خلق الله تعالى الملائِكة للخدمة والجن للقدرة وخلق العارفين للمحبة فالمحبة نارٌ حطبها أكباد المحبين والخوف نار والحُبُ نور ولا يكون أبداً نار بلا نورٍ.

إذا ما قنعنا بالوسائِلِ بيننا*فلا أنت معشوقٌ ولا أنا عاشق

ولا عِشقٌ إلا أن يكون تواصُلاً* ولا وصلٌ حتى أن يكون يعانق

إذا لم يتم الوصلُ والبذلُ في الهوى*فأمر الهوى ما بين هاتين طالق

وقال شمعون كان في جيراننا رجلٌ وكان له جارية وكان شديد الميل إليها فاعتلت الجاريةُ فجلس الرجل يعمل لها شيئاً فبينما هو يحرك القدر إذ قالت الجاريةُ آه قال فدهش الرجلُ وسقطت الملعقةُ من يدهِ وجعل يحرك ما في القدر بيدهِ حتى تساقطت أصابعه فقالت الجاريةُ ما هذا فقال الرجل موضع قولك آه أنشد لمحمد بن داود الأصفهاني شعراً:

إني لأحسُدُ والديكَ إذا هُما*نظرا إليك وفاتحاكا كلاما

وددتُ أنهما استعارا ناظري* وتأملاك بمقلتي وأدامَا

حكي عن محمد بن عبد الله البغدادي قال رأيت بالبصرة شاباً على سطح مرتفع وقد أشرف على الناس وهو يقول شعراً:

من مات عشقاً فليمت هكذا* لا خير في عِشقٍ بلا موت

ثم رمى نفسه الى الأرضِ فحملوه ميتاً فأنشدتُ لبعضهم شعراً:

صابر الصبر فاستغاث بهِ الصبرُ*فصاح المُحِبُ بالصبر صبر

جمال الصبر في المحبة ترك الصبر لا الصبرُ في المحبةِ وترك الصبر في المحبةِ صدق المحبة، فأنشدتُ لبعضهم شعراً:

الصبر عنك فمذمومٌ عواقِبهُ* والصبر في ساير الأشياءِ محمودُ

وقال الشيخ أي جنيد البغدادي قدس سره دخلت على الشبلي قدس سره ذات يومٍ في مرضهِ فقلتُ الا أتيك بطبيب فقال شعراً:

كيف أشكو الى طبيبي مابي*والذي قد اصابني من طَبيبي

فأخذتُ المروحةَ لأُروحه ُ فأنشأ وجعل يقول:

إذا مرض الحبيبُ وطال فيه وصبهُ* فحبيبهُ الدائم يكون طبّه

وإن اعياك داء الطُبِ يوماً*فَطُبُكَ ان يحبّكَ مَن تُحِبّهُ


قال عبد الواحد بن زيد رأيت رجلاً مهزولا ضعيفاً شاحباً لونهُ فسلمت عليه وقلت لهُ رياضَتِك بطعامك بلغك هذا المبلغ قال لا قلت بسهر الليل قال لا قلت بصومِ النهار قال لا قلت فبِماذا قال مَحَبَة دائمة واشتعال نار في فؤادي فقلت لمن فصاح وغشي عليه فلما أفاق قلت يا هذا تدعي ومن رَبِكَ لا تستحي فنظر الى السماء وقال بحقي عليك ألّاما قبضتني بين الخطوتين ان كنت صادقاً وكأنه لم يكن فلم أنكر محباً على محب فسجد فمكث طويلا فلم أبرح حضرته بعد ذلك أبداً.

أحب اللهُ قوماً فاستقاموا*على طرق الودادِ فلم يناموا

سقاهم بالصفا من كأس ودٍ*فصاموا من محبته وقاموا

قال سيدنا الشيخ الشبلي قدس سره يوماً جور الهوى أحسن من عدلهِ وبخله أطرف من بذلهِ لو عدل الحُبّ على أهله لمات كل الخلق من عدله، فصاحب المحبة ساعة يطلب وساعة يهرب وساعة يرغب وساعة يرهب وساعة يحزن وساعة يطرب ليس له حالٌ دائِم ولا أمرٌ قائِم وكيف يدوم حال من يُذبح ساعة ويحي ساعة ويبقي ساعة ويكشف عن فؤاده ساعة ويحجب عن مراده ساعةً.

يروى أن سيدنا الشيخ الشبلي قدس سره أرتبط بسيدنا الشيخ جنيد البغدادي قدس سره ارتباطاً روحياً شديداً، فكان يجتهد في أن يأخذ عنه بقدر ما يستطيع، ويبحث عنه في كل مكان، ويسعى وراءه أينما حلّ. وقيل إنه بحث عنه ذات يوم فى المسجد فلم يجده، فذهب إلى بيته، ووقف أمام الباب وأنشد يقول:

عودوني الوصال والوصل عذب*ورموني بالصد والصد صعب

زعموا حين أزمعوا ذنبي* فرط حبي لهم وما ذاك ذنب

لا وحق الخضوع عند التلاقي* ما جزى من يحب إلا بحب

وسمعه الشيخ الجنيد قدس سره فتأثر تأثرا شديداً وقابل إنشاده بإنشاد ورد عليه قائلاً:

وتمنيت أن أراك فلما رأيتكا * غلبت دهشة السرور فلم أملك البكا

ويقول سيدنا الشيخ الشبلي قدس سره منادياً بالمحبة، التي رأى فيها {صراط الأولياء}، وهي عنده اتباع أوامر المحبوب، وتجنب نواهيه... والفراغ للحبيب، وترك الاعتراض على الرقيب... وهي كأس لها وهج، إن استقرت في الحواس قتلت، وإن سكنت في النفوس أسكرت، فهي سكر في الظاهر، ومحبة في الباطن... المحبة الكاملة أن تحبه من قبله، ويقول أيضاً في المحبة من ملت همّته، ضعفت محبته، ويقول أيضاً في المحبة عنده الرق للمحبوب وطاعته وعدم الغفلة عنه. لذا أنشد ذات مرة في جماعة من المريدين كانوا عنده، ووجدهم قد غفلوا عن ذكر الله وتسبيحه:

كفى حزناً بالواله الصبّ أن يرى* منازل من يهوى معطلة قفرا

وأنشد ذات مرة حين سئل عن قلوب المشتاقين:

أسر بمهلكي فيه لأني* أسر بما يسر الألف جدا

ولو سئلت عظامي عن بلاها* لأنكرت البلى وسمعت جحدا

ولو أخرجت من سقمي لنادى* لهيب الشوق بي يسأله ردا

يقال المحبةُ نار والشوقُ حطبها، أوحى الله تعالى الى داود عليه السلام من طلبني قتلته في هواي شوقاً الي أتاني ومن أحبني ابتليته، ومن أحببته قتلته، ومن قتلته فعلي ديته، ومن على ديته فانا ديته.
من مخطوط : روضة المريدين
مقال في المصري اليوم: فرسان العشق الإلهي (الحلقة 19) عمار علي حسن