بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اطلع في السماء الأزل شمس أنوار
النبوة المحمدية، وأشرف من أفق أسرار الرسالة مظاهر تجلي الصِفات الأحمدية أحمده
على أن وضع أساس نبوته على سوابق أزليته، ورفع دعائِم رسالته، على لواحق ابديَتِهِ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لهُ الفرد المنفرد في فردانيته، الواحد المتوحد
في وحدانيَتِهِ، وأشهدُ أن سَيدنا ونبينا محمداً صل الله تعالى عليه وآله وسلم خير
بريتهِ، الذي منحه الله أوضح البراهين وأعظم المعجزات، وجعل وجوده رحمة لجميع
المخلوقات، وزين برسالته المكنونات، وأظهر بها غوامض الأسرار الربانيات، صل الله
عليه وعلى آله وأصحابِه ِ أصحاب الكرامات، وعلى ذريتهِ وأزواجهِ الطاهرات
المرضيات، صلاةً وسلاماً دائِمين على ممر الساعات والأوقات، وسلم تسليماً كثيراً الى
أبد الأبدين.
قال الله سبحانه وتعالى وهو أصدق القائِلين في
سورة التوبة أية 129(لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌۭ مِّنْ أَنفُسِكُمْ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌۭ رَّحِيمٌۭ)، وقال صل
الله تعالى عليه وآله وسلم (كُنْتُ نبي لدى ربي قبل خَلقِ أدم بِأربَعَةَ عَشَرَة
ألفِ عام)، فرسول الله صل الله تعالى عليه وآله وسلم هو سيد الأولين والأخرين
والملائِكة المقربين والخلائِق أجمعين سيدنا ومولانا وذُخرنا وملاذنا أبو القاسم
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم أبن عبد المناف بن قصي بن كِلاب بن مرة بن
كعب أبن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك أبن النضر والقريش تنتهي الى هذا وقال كثيرون
الى فهر بن كنانة بن خزيمة أبن مدركة أبن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان
الى هذا أنتهى النسب المجمع عليه ووراء ذلك أقوال متباينة لا يبتُ منها شيء شرف الله
سبحانه نبيه مُحَمَداً صل الله تعالى عليه وآله وسلم سبق نبوءته في سابق أزليتهِ
وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما تعلقت إرادته بإيجاد الخلق أبرز الحقيقة المُحَمَّديَة من محْض نورهِ قبل كل شيء من المخلوقات ثم سَلَخَ أيْ
أخرج مِنها العَوالم كُلَها ثم أعْلَمَهُ الله تعالى بسبق نبوتِهِ وبَشَرَهُ
بِعِظَمِ رِسالَتِهِ كُلُ ذلِك وأدم لم تُنفَخ فيهِ الروح ثم انبَجَستْ أي انفَجَرت
وظهرت منه صل الله تعالى عليه وآلهِ وَسَلم بالملاءِ الأعلى أصلاً مُمتَداً مِنهُ
العَوَالم كُلَها، قال كعب لما أراد الله سبحانه وتعالى
أن يَخلُقَ نَبّيَهُ سيدنا مُحَمَداً صل
الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم أمَرَ جبريل أن يأتيهِ بالطينة التي هي قَلبُ
الأرض فهبط في ملائِكة الفردوس وملائِكة الرَقيع الأعلى فقبضها مِن محل قَبرِهِ
الشريف وأصلُها مِن محل الكعبة مَزَجها الطوفان الى هناك فَعُجِنَت بِماء التسنيم
ثم غُمِسَت في أنهار الجنة حتى ضَارت كالدُّرَة البيْضاء ثم طافت بِهَا الملائِكة
حَول العَرش والكُرسي وفي السموات والأرض والبحار فعرَفَت الملائِكة وجميع الخلق
سيدنا مُحَمَداً صل الله تعالى عليه وآله وسلم قبل أن تُعرف أدم ورأى أدم نور سيدنا
مُحَمَد صل الله تعالى عليه وآله وسلم في سرادِق العرشِ مكتوباً عليْهِ مقروناً بِاسمِهِ
سبحانهُ و تعالى، فَسَأل عَنهُ فقال لهُ رَبْهُ هذا نبيٌ من ذريتِكَ اسمُهُ في
السّمَاءِ أحمد وفي الأرضِ مُحَمَد ولولاه مَا خَلَقتُك ولا خَلَقتُ سماءً ولا
أرضاً وسألَهَ أن يغفر له مُتَوَسِلاً إليهِ بسيدنا مُحَمَّد صل الله تعالى عليهِ
وآلِهِ وسلم فغفر الله سبحانه وتعالى له بجاهِ، ولما كان أدم طيناً أستخرج الله
مِنهُ نبينا مُحَمَداً صل الله تعالى عليه وآلِهِ وسلم وَنَبّاهُ ثم أخذ مِنُه
الميثاق قبل الأنبياء ثم أعاده الى أدم فَنُفِخَتْ فيهِ الروح ثم أستخرج منه ذريته
لإخذ الميثاق عَلَيهِم فنبينا وسيدنا مُحَمَد صل الله تعالى عليه وآلِهِ وسلم هو
المقصود مِنْ الخَلق وهوَ واسطة عِقدِهِم وهو رَسول الرُسُل لإن الله سبحانه
وتعالى أخذ الميثاق عليهم لأنهم من أتباعه فرِسالتُهُ عَامَة لجميع الخلق الى يوم
القيامة ولأجْلِ ذلك كان الأنبياء كُلَهُم يوم القيامةِ تحت لِوائِهِ، ولما ظهر
أدم ظهر نور نبينا وسيدنا مُحَمَد صل الله تعالى عليه وآلِه وسلم في جبينِهِ ثم
خلق الله سبحانه وتعالى من ضلعِهِ الأيسر حواء فأراد أن يمد يده اليها فكفته
الملائِكة عنها حتى يصلي على سيدنا ونبينا مُحَمَد صل الله تعالى عليه وآلِهِ
وَسَلَم ثلاث مرات وفي رواية عشرين مرة ثم لما أُهبِطَ الى الأرض لِما أرادَهُ
اللهُ مِنَ الحِكَم الباهِرةَ التي لو لم يكن منها إلا ليُوجَدَ سيدنا ونبينا
مُحَمَد صل الله تعالى عليه وآلِه وسلم(المقصود هنا إن سبب وجود وخلق أدم ظهور نور
سيدنا مُحَمَد) وقت ظهورِهِ في أُمَتِهِ الذين هم خير أُمَةٍ أُخرِجَت للناس فولدت
حواء أربعين ولداً في عشرين بَطنَاً في كُلِ بَطنْ ذَكّر وَأُنثى إلا شيثاً فإنه ولِدَ
وَحدَهُ لِأَنَهُ وارِثُهُ فلهذا انتقل النور المُحَمَّدي إليهِ ثم أوصى شيثٌ
ولدَهُ بِما أوصاهُ بِهِ أدم أن لا يضعه إلا في المُطهَرات مِنَ النِساء ثم لم
تَزَل هَذِهِ الوَصيَةَ مَعمولاً بِها الى سيدنا عبد الله بن عبد المُطَلِب (عليه
السلام) فَطَهَرَ اللهُ لَهُ هذا النَسَبْ الشَريف مِن قبائِح الجاهِلِيةَ وَمَا كانوا عَلَيْهِ وكان ذلك النور يزدادُ
تلألُؤً في جَبْهَة جَدِهِ عبْد المُطَلِب وَبِبَرَكة هذا النور تَوَجَه بِهِ الى
أصحاب الفيل الذينَ قَصَدوا مَكَةَ لِيُخَرِبوها وقد أن أوان الحَملُ بِهِ صل الله
تعالى عليه وآلِهِ وسلم فأرسل الله سبحانه وتعالى عليهم الطير الأبابيل فأهلكتهُم
قبل دخولِهِم الحرم عن أخِرِهِم إِلا واحِدَاً مِنهُم ليَخبِرَهُم إرهاصاً
وكرامَةً لِظُهُور النور المُحَمَدي صل الله تعالى عليهِ وآلِهِ وَسَلَم ثُمَ
ظَهَرَ ذَلِكَ النور في جَبْهَةِ أَبِيهِ عبد الله الذبيح، الذي أرادةَ أبِيهِ
فِدائَهُ وَذَبحِهِ وفاءً لِنُذرِه بعد أن دَلَهُ الله سُبحانَهُ وتعالى على بِئرِي
زَمْزَم فنجاهُ الله ببركة ذلِكَ النور بِأن ألهم أباهُ أن يفتَدِيهِ بِمائةِ
بَعير وَلَما فُديَ أدركت امرأة مِنهُ ذَلِكّ النور فَخَطَبَتهُ لِنَفسِها(وفي بعض
الروايات امرأة يهودية) وتعطِيهِ المائة التي فُودىَ بيها من البَعير فأبى حتى
يأذن أبوه أي عبد المُطَلِب، فَذَهّبَ أبوهُ بِهِ الى وَهَب بن عبْد مناف بن زُهرة
وهو يومئِذ سَيَّدُ بَني زُهرة نسباً وشرفاً فزوجَهَ لِوَقتِهِ أبنَتَهُ سيدتُنا أمينة(عليها
السلام) وهي أفضلُ امرأةٌ في قُرَيش فدخل عليها من وَقتِه فحمَلَت بسيدنا ومولانا
ونورنا أبصارنا مُحَمَد صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم سيد الخلائِق مِن سَاعَتِها
ففارق ذَلِكَ النور سيدنا عبد الله (عليه السلام) فعرض نَفسَهُ على الأولى (أي
التي خَطَبَتهُ سابِقاً) فأَبَتهُ وَقَالَت لَهُ فارقكَ ما كُنْتُ آمَلُ انتِقَالَهُ
إلَيْ مِنَ النوّر الذي كان مَعَك وَنُديَ
ليلَة حَملِهِ وهي ليلة الجُمعة في رجب في السماءِ والأرضَ إنَ النور المكنون الذي
مِنهُ مُحَمَد صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم يستَقِرُ الليلة في بطنِ آمينةَ (عليها
السلام) ويَخرُجُ لِلناسِ بَشيرَاً وَنَذيرَاً وأَمَرَ الله سُبحانَهُ وَتَعالى أن
يُفتَحَ بابُ الفِردَوسِ وَنَطَقَت كُلَّ دابَةٍ لِقُرَيشَ تِلكَ الليلةَ وقالت
حُمِلَ مُحَمَّدٌ صل الله تعالى عَلَيهِ وآلِهِ وسَلَم وَرَبُ الكَعبَةِ وهو إمامُ
الدُنيا وَسِراجُ أَهْلِها وَلَم يبْق سَريرٌ لِمَلِكٍ مِن ملوك الدُنيا إلا
أصبَحَ مَنكوسَاً وَأَصْبَحَ كُلُ مَلِكٍ أخرس لا يَنطِقُ يومَهُ ذَلِكَ وَمَرَت وحوشُ
المَشرِقِ إلى وحُوِ المغرِبِ تُبَشيرُها بِهِ وكّذا أهلُ البِحارِ يُبَشِر
بعضَهُم بَعضاً ورَأت سَيْدَتَنا آمينة وهي بين النومِ واليَقَظة قائِلاً يقولُ
لَها أَشَعَرْتِ أَنَكِ حَمَلتِ بِسَيدِ هذه الأُمةَ ونَبيَّها ورأت سَيْدَتنا
آمينة أنه خَرَجَ مِنها نُورَاً أضاءت لَهُ المَشرِق والمَغرِب وَلَما مَرَ
بِحَملِها ستَةَ أشهُرٍ أتاها آتٍ في منامِها فأخبرَها إنها حَمَلَت بِسَيّدِ
العَلَمين وإنها تسَميهِ مُحَمَداً وإنها تَكتُمُ شأنَهُ، وفي رواية أنها لم تحس
بوجع وفي رواية انها وجدت له أعظم الثُقل والروايات المشهورة أنها حملت بِهِ وَلَم
تَجِد لَهُ ثُقلَاً وجمع بِأنَ الأول في أول الحمل والأخِر في أخِرِه لتقع
المخالفة العادة فيهِما حتى يُعْلَم أَنَ كُل أُمُورِهِ صل الله تعالى عليه وآلِهِ
وَسَلَم خارِقَة للعادة، والأشهر أن أباهُ توفى وَهيَ حامِل بِهِ وَعَلَيْه المعظم
من الروات، وفي رواية أُخرى انها حملت بِهِ أكثر مِن تِسعَة أشهُر والأصح كما يقول
المؤلِف خِلافَها ولم تَزَل أُمَهُ تَرى وَهْيَ حَمِل بِهِ مَا يَدُل على عَظيمِ
قَدرِهِ صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم ومِما تواترت الأخبار بنَقله الكَرامات
والأيات الباهِرة الى أن مرَّت تِلك الشُهُور وأشرَقَ الوجود بِذَلِكَ النور
فأخذَهَ مَا يأخُذُ النِساء مِن الألم وَلَم يَعْلَم بِها أحد فَسَمِعَت شيْئاً
أَهالَها فرأت كأنَ جناح طائِرٍ أبيض مَسَحَ على فؤادِها فذهَبَ رَوعُها ثُمَ التفَتَتْ
فإذا هي بِشِربَةٍ بيضاء فيها لَبَنٌ وكانت عطشانة فشَرَبَتْ ثم رآت نسوةٌ كالنَخِيل
طولاً فَتَعَجَبَتْ مِنهن فقلنَ لَها نحنُ آسيا وَمَريم وهؤلاءِ مِن الحور العين
فاشتد الأمر وتكرر سمْعُها لِذَلِكَ القَول وَإذا هيَ بديباجٍ أبيض مُدَبين
السَمَاءِ والأرض وَإذا بِقائِلٍ يَقولُ خُذُوهُ عَن آعيُنِ الناس وَرَأتْ رِجالاً
وَقَفوا في الهواء بِأيديهِم أباريقٌ مِنَ الفِضَةِ وأنها يرشح مِنها عَرَقٌ أطيَبُ
مِنَ المِسكِ الأذفر ورأت أيضاً قِطْعَةً مِن طير أَقبَلَتْ حتى غَطَت حُجْرَتَها
مناقيرُها مِن الزُمُردِ وأَجنِحَتَها مِن الياقوتِ وَأبصَرَت حينَئذٍ مَشَارِق
الأرضِ وَمَغارِبَها فرأت ثَلاثُ أعلاَمٍ مضروبات عَلَماً بِالمَشرِقِ وَعَلَمَاً
بِالمَغرِبِ وَعَلَماً على ظَهرِ الكعبةِ، فأخذها المخاضُ وَاشتَدَتْ بِها الأمر
وكانت مُستَنِدَةً إلى نِساء وَكَثُرنَ عَليها حتى كَأنَهُنَ مَعَها في البيت
فحينئذٍ وَلَدتهُ صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم ليلاً كما في رواية أو نهاراً
كما في رواية أُخرى ولا منافات لاحتمال أنها بعد الفَجر موصوفاً بِأوصافٍ تَليقُ
بِكَمالِهِ الأعظم وَقدرِهِ الأفخم مِنها أنه لم يخرُج مَعَهُ قَذِر أصلاً فإنهُ
رُأيَ نُورَاً أَعَمَ البَيْتَ والدار ورأى النجوم تدنوا أو تتدلى حتى يُظَنُ
سُقُطَها عَلَيهِم وَأَنَ قابِلَتَهُ سَمِعَت قائلِاً يقولُ لها يَرحَمُكِ اللهُ
فَسَطَعَتْ نُورَاً إضاءة لَهُ ما بَينَ المَشرِقِ والمَغرِب وأنهُ صل الله تعالى
عليه وآلِهِ وَسَلَم وقع على كفيهِ وركبَتَيهِ شاخِصَاً بِبَصَرِهِ رافِعَاً
يَدَيهِ كالمُتَضَرِع المُبتَهِل وأنه وَقَعَ حين وَلَدَتهُ واضِعَاً يَدَيهِ في
الأرضِ رافِعَاً رأسَهُ إلى السَمّاء وأنهُ لَمّا فُصِلَ عن أُمِهِ خَرَجَ مِنْها
نُورَاً وفي رواية شِهابٌ أضاءه لهُ ما بين المَشرِقِ وَالمَغرِب لا سيما الشام
وَقُصُورَها إشارة إلى أنه يَصِلُ إلِها بِنَفسِهِ وَأنَ الإسراء يكون إليها ثُمَ
إلى السماء، وَأنهُ لما خَرَج مِن بَطِنِ أُمِهِ وقعَ مُعتَمِدَاً على يديهِ ثُمَ
أَخَذة قبضَةً مِن تُراب وَرَفَعَ رأسَهُ إلى السماءِ وَقَبَضَ التُراب أشارَةً إلى
أنَهُ يَملِكُ الأرضَ كُلَها وَإنَهُ يَنثُرُهُ في وَجهِ أعدائِهِ وينتَصِر عَلَيهِم،
وَأنَهُ صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم ولِدَ جاثياً على رُكبَتَيهِ يَنظُرُ
إلى السماء ثم أخذ قبضتَهُ مِن تُراب الأرضِ وهوى سَاجِداً وفي سجودِهِ إشارة إلى
أَنَ مَبْدأ أمرِه على القُربِ مِن الحضرة الإلهية وَأنَهُ وَضَعَ تحت برمَة (تعني
قِدْرٌ عَميقٌ مِنَ
الحِجارَةِ أَوِ النُّحاسِ أو خزف) كما كان معهوداً عِندَهُم فانَفلَقَت، كان
المَولُودُ إذا ولِد في قُرَيش دفعوهُ إلى نسائِهم يَضَعْنَهُ تحتض بُرْمَة الى
الصبح، فلما وُضِعَ صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم تحتَها انفَلَقَت عَنهُ
نِصفَين وَإذا هو ينظُر بِبَصَرهِ الى السماء وَأَنَ سَحَابَةً بَيْضاء نزلت من
السماءِ فقلبهُ عن وَجهِ أمد بُرهة فَسَمَعت قائِلاً طوفوا بِمُحَمَد صل الله
تعالى عليهِ وآلِهِ وَسَلَم مَشرِق الأرضِ وَمَغرِبَها وأدخُلوهُ الى البِحار
كُلَها ليعرِف جَميعُ مَن بيها باسمِهِ وَنَعتِهِ وَصِفَتِهِ ويعرِفون صِفَتَهُ ثم
أنجلت عنهُ فإذا مُدَرَجٌ في ثَوب صوف أبيض وتحتهُ حريرة خضراء وقد قبض على ثلاث
مفاتيح من اللؤلؤ الأبيض الرطب وإذا بقائِل يقول قبض مُحَمَد صل الله تعالى عليه
وآلِهِ وِسَلَم على مفتاح النصر ومفتاح الذِكر ومفتاح النبوة، وفي رواية أنهَا رأت
سَحَابَة أعظم مِن الأولى تَسمَعُ فيها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة وكلام الرجال
حتى غشيتهُ فَغُيّبَ عن أُمِهِ أكثر مِن الأولى وَسَمِعَت قائِلاً يقول طوفوا
بمُحَمَد صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم جميع الأرضين وعلى النبيين وعلى الجن
والأنس والملائِكة ثم أنجلت عَنهُ فإذا بِه قَبَضَ على حريرةٍ خضراء مطويةٍ طَياً
شَديدَاً يَنبَعُ مِنها ماء مَعين أي (ظاهر ، تراه العين
جاريًا على وجه الأرض) وَإذا بِقائِل يقول قَبَضَ مُحَمَد صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم على الدُنيا
كُلَها ولم يَبقِ أحد مِن خلقِها إلا دَخَلَ في قَبضَتِهِ طائِعاً وَلا حَولة وَلا
قوة إلا بِالله العلي العَظيم القادر على ما يُريد ثُم غَشِيَتهُ ثلاث أنفار بيد
أحدِهِم أبريق مِن الفِضة وبيد الثاني طست من زُمُرُد أخضر وَبيَد الثالث حريرة
بيضاء فنشرها فأخرج مِنها خاتماً يَتَحَيَرُ أبصَار الناظِرين دونه مِنهُ
فغَسَلَهُ من ذلِك الأبريق سبع مرات ثم ختم بين كتفيهِ بالخاتم ولفَهُ في الحرير
ثم أحمتاه وأدخله بين أجنحَتِهِ ساعتً ثم رده ولا تعارض هذه الرواية رواية انه وُلِده بِالخاتم ولا رواية أنه خُتِم بِهِ لَما
شُقَ صَدرَهُ الشريف وهو عنده حَليمة لإنه لا مانع من تكرير الخَتِم إظهاراً لمزيد
من الكرامات والمعجزات والتَمييز والاعتناء بِهِ صل الله تعالى عليه وآله وَسَلَم،
وأخبر جماعة من الأحبار والرهبان بليلة مَولده وأجمعوا على ذَهابِ مُلكِ بني إسرائيل
وأمنَ بِهِ بَعضُهُم وفيها أرتج وأضطرب
إيوانُ كِسرى الذي لم يَكُن أحكَمَ مِنهُ(أي بناءً) فانصدع وسقط مِن أعلاه أربعة عَشَرَ
شَرافَةً إشارة الى أنه لم يبقى من ملوك الفُرس إلا أربعة عشر مَلِكَاً وكان
أخرَهُم في خِلافَة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخُمِدَت تِلكَ الليلة أيضاً نارُ
فارس التي كانوا يعبُدونهَا مِن دون الله ولم تُخمد قبلَ ذَلِك بِألفي عَام بَل
كانت تُضرَمُ وَتُوقَدُ أشد الإيقاد والأضرام ليلاً ونهاراً فَلَم يَقدِر أحداً
تِلكَ الليلة على إيقاد شيءٍ منها وغاصت بُحَيرَة
طَبَرية التي كانت تسيرُ فيها السُفُن فَلَم يَبْق بهَا تِلكَ الليلة قطرة فبُنيَ
في محلها مدينة تسمى ساوه ورُمِيَت في تِلكَ الليلة الشياطين المُسْتَرِقون
للسَمعِ مِن السماء بِالشُهُب فلم يَعودوا إليها وحُجِبَ أبليس عن خبر السماء
فرَنَ رَنةً عَظيمَةً كما رَنَ حين لُعِن وَحينَ أُخرِجَ مِن الجنَة وحين ولد سَيدُنا
مُحَمَد صل الله تعالى عليهِ وآلِهِ وَسَلَم وحين بُعِث وحين نُزِلَت عليهِ سورة الفاتِحة،
وأكثرُ العُلماء على أنه ولِدَ مختوناً مقطوع السُرَ حتى لا يرى أحد سوءاته ومن
أسباب تسميَة جَدِهِ عبدُ المُطَلِب لهُ مُحَمَدَاً ما روي أنه رأى كأن سِلسِلةً مِن فضَة خرجَت مِن
ظَهرِهِ لها طَرَف في السَماء وطرف بالمشرق وطرف بالمغرب ثم عادة كأنها شَجَرةٌ
على كُلِ وَرَقة مِنها نورٌ وإذا أهلُ المشرقِ والمَغرِبِ يتعلقون بِها فَفُسِرَ
له هذه الرؤية بِمَولود يكون مِن صُلبِهِ يتبَعُهُ أهلُ المشرق والمغرب ويحمدُهُ أهل السماءِ والأرض فلِذَلِكَ سماهُ
مُحَمَدَاً صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم، واختَلَفوا في شهر مَولِدِهِ
ويومِهِ على أقوال كثيرة ولا خِلاف في أنه ولِده يوم الأثنين من شهر ربيع الأول
والأشهر أنه وُلِدَ في ثاني عَشَر مِنهُ وكثيرون أئِمَة حُفاظ متقدمون وَغَيرهم
أنه يوم ثانية والصواب أنهُ وُلِدَ بِمَكَة ولا يجوز اعتقاد غَيْرَهُ والأشهر أنه
بِمحَل مولِدِهِ المشهور وبسوق الليل وهو الآن مَسجد لله تعالى وقفتهُ الخَيزُرانَ
أم الرَشيد وأول من أرضَعَتهُ ثويبة مولاةُ عَمِهِ أبي لَهَب أعتَقَها لَما بَشَرَتهُ
بِمَولِدِهِ فخفف اللهُ عَنهُ مِن عذابه كل ليلة أثنين جزاءً لِفَرَحِهِ فيها
بِمَولِدِهِ صل الله تعالى عليهِ وآلِهِ وَسَلَم وفي رواية أنه أعتقها لإرضاعيها له صل الله
تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم ثم أرضعتهُ بَعدَها حَليمَة السَعدية رضي الله عنها
كانت تأتي النبي صل الله تعالى عليه وآله وسلم فَيبسِطُ لها ردائَهُ وكذا زوجها
وبنتها الشيماء التي كانت تُحضِنُهُ صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم وخُلاصة
قصَة أراضعها أنها خَرَجَت في سَفرَةٍ من قومِها يلتَمِسْنَ الرضاع بِمَكَةَ
وَكُلُهُن أعرَضْنَ عَنهُ صل الله تعالى عليه وآلِهِ وَسَلَم لتمر حتى هيَ ولاً
لكن لما لَم تَحصُل لَها غَيرَهُ جاءت إليهِ وأخذتهُ فرأتهُ مُدَرَجاً في ثوب صوف
أبيض مِن اللبن يفوح المسك مِنهُ وحريرةٌ خضراء وكان راقِدا فهابتهُ أن توقِظَهُ
فَوَضَعَت يداهُ على صَدرِهِ فتبسم ضاحِكاً وفتح عينيهِ الشريفَتين فخرج مِنهما
نوراً حتى دخل خِلال السماء فقبلَتهُ وأعطَتهُ ثديها الأيمن فقبلهُ وحولَتهُ الى
ثديِها الأيسر فأبى لإن الله سبحانه ألهمَهُ العَدل وأعلمَهُ أن له شريكاً هو
أبنها فترك له ثديها الأيسر وكانت هيّ وناقَتَها وأبنائها في أشد الجوع والهزال
وعَدم اللبن فبِمُجَرد أن وَضَعتهُ في حجرِها أقبل عليهِ ثديها فروي وروى أخوه
وَدَرَت ناقَتَهُم فأشبَعَتهم تِلك الليلة لَبَناً، فلما أصبحت ودعت سيدتنا آمينة
وَرَكَبَت أتانها(أي حمارها) فرأت الأتان سجدت نحو الكعبة ثلاث مرات ورَفَعَت
رأسها الى السماء فلما خَرَجَت مع قومِها سَبَقَت أتانها الكُل بْعد أن كانت لا تنهض بِها
فأنكَرَت انها هي فلما اعلمنها قلن ان لهذا شأناً عَظيماً وكانت تسمعها للاتان وهي
تقول ان لي شأناً ثم شأناً بعثني الله بعد مَوتي لو عَلِمْتُنَ مَن على ظَهري
عليهِ خيار النبيين والأولين والأخرين وعن حَليمة أنه صل الله تعالى عليه وآله
وَسَلَم لما بَلَغَ ثمانية أشهُر كان يتكلم يجيب ويسمع كلامه ولما بَلَغَ تسعة
أشهُر كان يتكلم بالكلام الفصيح ولما بَلَغَ عَشَرَة أشهُر كان يرمي السِهامَ ولما
تم له صل الله تعالى عليه وآله وسَلَم عامان عاد بِهِ الى أمد ثم لم تزل بها حتى
رجعت فمكث عِندَها شهرين فينما هو وأخوهُ يرعيان خلف البيوت وإذا بأخيهِ ينادي
لأبويهِ أدرِكا أخي القُرشي فأدركاهُ مُتَغيراً لونهُ فأدركاهُ في الحال واعتنقاه وسألاهُ
عن حالِهِ فأخبَرَهُما بِأن اتاهُ رَجُلان عليهِما ثيابٌ بيض فأضجعاه فشقا بطنه
فخافا عليهِ فرداهُ فوراً إلى أُمِهِ فقالت ماردَّكُما بِهِ وقد كُنتُما حَريصَينِ
عليه ثم لم تزل بها حتى أخبراها فقالتا فخفتما عليهِ من الشيطان كلا واللهِ ما
للشيطان عليهِ سَبيل وأنه لكائن لأبني هذا
شأنٌ عظيم وَشُقَ صدرَهُ الشريف أيضاً وهو أبن عشر ثم عند بلوغِهِ ثم عند بعثَتهِ
ثم عند الأسراء بِهِ ليكون لكُلِ طَورٍ من
أطوار طفولتيهِ كمالٌ يَخُصُهُ ويَليقُ بِهِ إذ القصد مِن ذَلِك إظهارٌ لِمَزيد من
معجزاتِهَ والتمييز والاعتناء بِهِ وإلا فهو من حين خلقِهِ على أكمل الحالات الظاهِرة
والباطِنِة وكان وهو عند حليمة إذا خرج الى الغنم تَظُلُهُ الغَمَامَةُ أذا وقف
وقفت وَإذا سارَ سارَت وكان وهو في المهد يناغي القمر أي يحادِثُهُ ويشيرُ إليهِ
بِإِصبَعِهِ فحيث أشار إليهِ مال إليهِ ولما أُخبِرَ صل الله تعالى عليهِ وآلِهِ
وَسَلَم بِذَلِك قال كُنُت أُحَدِثُهُ وَيُحَدِثُني ويُلهيني عن البُكاء وأسمَعُ وَجنَتَهُ تحت
العرش حين يَسْجُد وتكلم صل الله تعالى
عليهِ وآلِهِ وَسَلَم في أوائِل ما ولِد وكان مهدُهُ يتحرك بتحريك الملائِكة قالت
حليمة رضي الله عنها وأول ما فطَمَتهُ قال الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا
وسبحان الله بُكرَةً وأصيلا، ولما بلغ صل الله تعالى عليهِ وآلِهِ وَسَلَم أربع
سنين وقيل أكثر توفت اُمُهُ في رجوعِها بِهِ الى المَدينة وكانت قد ذَهَبَتْ بِهِ
تَزور أخوال جَدِهِ عبد المُطَلِب وَهُم بَني عدي بن النجار وَدُفِنَت بِالأبواء
قَرية عند الفزع فرجَعَت بِهِ أُمُ أيمن بَرَكة دايَتُهُ وَحاضنَتُهُ
وَمُرضِعَتُهُ يقال أنها ورثها من أبيه أو من أمه أو أن خديجة وَهَبَها لَهُ وَقيل
دُفِنَت بالحجُون وَيَشهَدُ له روايات كثيرة ولما بَلَغَ صل الله تعالى عليه
وآلِهِ وَسَلَم ثمان سنين وَقيل أقل وٌيل أكثر ماتَ جَدُهُ عبد المُطَلِب عن مائةِ
سَنَة وَعَشر أو أربعين سنة ودُفِن بالحُجون وَكَفَلَهُ عَمُهُ شَقيقُ أبيهِ لأبو
طالِب بوَصيَّةٍ من عبد المُطَلِب لَهُ بِذَلِك ولما بَلَغَ صل الله تعالى عليه
وآلِهِ وَسَلَم أثنى عَشَر سَنَة خَرَجَ مَعَهُ عَمُهُ أبو طالِب الى شام حتى بلغ
بُصرى فعرفَهُ بحيرا الراهب وأخبَرَهُم بِصِفَةِ نبوَتِهِ وَرِسالَتِهِ وَبِخاتم
النبوة الذي بين كَتفَيْهِ وآمن بِهِ ثم أقسَمَ على عَمِهِ أن يرجع بِهِ خوفاً
عَلَيهِ مِن اليهود، وإذ أقبل منهم سَبعة يُريدون قَتلَهُ فمنَعَهُم بحيرة
فأخبروهُ أن اليهود تفرقت في كُل طريقٍ لِعلمِهِم أنه خارجٌ لِهذا الشَهر ومن
جُملَة ما رأهُ بحيرا تظليلُ غمامة بيضاء لَهُ وأنَهُ نَزَلَ تحت شَجَرَة فَأرخَتْ
أغصانها عَلَيهِ تُظِلُهُ ثم لما بَلَغَ صل الله تعالى عَلَيهِ وآلِهِ وَسَلَم
عشرين سَنَة عاد إلى شام في تِجارة وَمَعَهُ أبو بَكر فسأل بحيرا عَنهُ فأقسَمَ
أنَهُ نَبي ثُمَ لما بَلَغَ صل الله تعالى عَلَيهِ وآلِهِ وَسَلَم خَمسَاً وعشرين
سَنة رَجَعَ إلى شام أيضاً في تِجارة لِخَديجة رضي الله عَنها ومعَها غُلامَها مَيسَرة فكان يَرى مَلَكَين
يُظِلانِهِ مِن الشَمس وَرَأت ذَلِكَ خّديجة رضي الله عَنها أيضاً ثُمَ لما
رَجَعوا وَبَعْدَ رجوعِهِ بنحو ثلاثَة
أشهُر تزوَجَها وَعُمرُها أربعون سَنَة وَقيل خمس وأربعين سَنة وَقيل ثلاثون سَنَة
وقيل في ذلِك روايات كَثيرة، ولما بَلَغَ صل الله تعالى عَلَيهِ وآلِهِ وَسَلَم
خَمساً وثلاثون سَنَة بَنَت قُرَيشَ الكَعبة وكان صل الله تعالى عَلَيهِ وآلِهِ
وَسَلَم هو الواضع للحجر الأسود في محَلَها ثُمَ لما بَلَغَ صل الله تعالى عليه
وآلِه وَسَلَم أربعين سَنَة أرسَلَهُ الله رَحمَةً للعَلَمين وَرَسولاً الى كافة
الخلق أجمَعين صل الله تعالى عَلَيه وَسَلَم وَبَارَكَ عَلَيهِ وعلى آلِهِ أفضل الصلاةِ
والسلام وأفضل بَرَكة عدد مَعْلوماتِ الله وَمِداد كَلِماتِهِ أبد الأبدين ودهر
الداهِرين والحمد لله رَبِ العالَمين.
وصل الله على سيَدِنا مُحَمَدٍ النَبي الأُمي
وعلى آلِهِ وَسَلم تسليما