بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَىِّ ٱلَّذِى لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ
بِحَمْدِهِۦ ۚ وَكَفَىٰ بِهِۦ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرًا
سورة
الفرقان أية (58)
في الحديث الشريف لسيدي ومولاي رسول الله صل الله تعالى عليه وآله وسلم (لو
أنَّكم توكلتم على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماسًا، وتروح بطانًا)
رواه البخاري وابن ماجه وغيره/ صحيح ابن ماجه للألباني: 3377، وأخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن
يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد
الله أوثق منه بما في يده، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله.
وقال سيدنا الأمام علي (كرم
الله وجهه) يا أيها الناس، توكلوا على الله، وثِقوا به؛ فإنه يكفي مما سواه.
المتوكلون على
ثلاث طبقات توكل المؤمنين وتوكل أهل الخصوص وتوكل خصوص الخصوص فأما توكل المؤمنين
فشرطه ما قال أبو تراب الحبشي حين سئل عن التوكل فقال طرح البدن في العبودية وتعلق
القلب بالربوبية والانقطاع الى الله تعالى فان أعطى شكر وإن منع صبر راضي بالقضاء
والقدر، وسئل ذو النون المصري عن التوكل فقال ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول
والقوة، أما توكل أهل الخصوص فهو كما قال أبو العباس بن عطا من توكل على الله
سبحانه بغير الله تعالى لم يتوكل على الله تعالى حتى يتوكل على الله بالله لله
ويكون متوكلاً على الله في توكله لا لسبب آخر، وكما قال أبو يعقوب النهرجوري
التوكل موت النفس عند ذهاب حظوظها من أسباب الدنيا والأخرة، وأما توكل خصوص الخصوص
فهو كما قال سيدنا الشيخ شبلي قدس سره حين سئل عن التوكل فقال ان يكون لله تعالى
كما لم يزل فيكون الله تعالى لك كما لم تزل، وسئل سيدنا الشيخ جنيد البغدادي قدس
سره عن التوكل فقال اعتماد القلوب على الله تعالى في جميع الأحوال، وقال سهل بن
عبد الله يعطي أهل ثلاثة أشياء حقيقة اليقين ومكاشفة الغيوب ومشاهدة قرب الرب،
وقال أبو بكر الكتاني من عزم على التوكل فليحفر لنفسه قبراً ويدفنها ويكون توكله
على الله في دفن نفسه ثم يتوكل على الله بالخروج اليه لا توكل عليه، سئِل حاتم
الأصم على ما بَنَيْتَ أمركَ من التوكل على الله قال على أربع خصالٍ عَلِمتُ أن
رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغولٌ به
وعلمت أن الموت يأتي بغتةً فأنا أبادره وعلمت أني لا أخلو من عين الله عزل وجل حيث
كنت فأنا مستحي منه، سُئِل أبو بكر الحديثي عن التوكل فلم يجب فقيل له في ذلك فقال
في بيتي أربع دوانيق حتى أخرجها فأنا أستحي من الله تعالى أن أتكلم في التوكل وفي
بيتي أربع دوانيق المتوكل لا يهتم ليوم لمعرفته بقسمته ، وقال سفيان الثوري لو أن
السماء لم تقطر(تمطر) والأرض لم تنبت ثم اهتممت بشيء من رزقي لظننتُ أني كافر،
وقال عامر بن قيس والله ما اهتممت برزقي منذ قرأت قوله تعالى (وَمَا مِن دَآبَّةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا)سورة
هود أية 6، يقال كن أمناً بالله ولا تكن أمناً عن الله وأطرح تدبيرك الى من خلقك
تسترح، وقيل لبعضهم ما الراحة قال ترك مطالبة ما لا يجري بالقسمة، قيل المتوكل لا
يسأل ولا يرد ولا يحبس وقال بعضهم التوكل لا يصح للمتوكل حتى يكون السماء كالصفر
والأرض كالحديد لا ينزل من السماء مطر ولا ينبت من الأرض نبات ويعلم مع ذلك ان
الله عز وجل لا ينسا له من رزقه بين هذين، وقيل من يَكل أموره الى الله يكفيه مهم
الدارين أجمع، قال الله عز وجل ومالنا الا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا وقال
حاتم الأصم معنا ومالنا الا نتق بالله وقد أعطانا سُبُلَنا للأسلام والهدى، وقال
أبراهيم الخواص رحمه الله ان المتوكل المجاهد لو جاءه أسد من خلفه فالتفت خرج من
التوكل، حكي عثمان بن مروان قال سمعت أبا سعيد الخراز يقول قطعت البادية مراراً
على تجريد فكنت أساكن الواردين من خلقه ثم حرجت خرجة اعتقدت فيما بيني وبين الله
عز وجل اعتقاداً وسألته التوفيق أن لا أساكن مُستَقبِلاً ولا مستَدبِراً ولا ألتفت
يميناً ولا شمالاً فخرجتُ بهذه النية فلما صرتُ في بعض سواد العراق كُنتُ أسير
يوماً بين صلاتين في موضع سبع فسمعتُ من خلفي حساً وطالبني نفسي بالالتفات فذكرت
العهد بيني وبين الله تعالى فحبستها ثم أشتد الحسُ فمشيت على حالي وسكنت نفسي على
الفزع والمطالبة حتى قرب الوطي وحسستُ بمشي الأسد وزئير فمشيت على حالي واذا على
كتفي الأيمن أسد وعلى كتفي الأيسر أسدٌ أخر فثبت حالي بالحق سبحانه وتعالى فلحس
أحدهما خدي الأيمن والخر خدي الأيسر ثم رجعا في طريقهما ومشيتُ انا على حالي فرجوت
أنه قد صح التوفيق فيما أعتدته بفضل الله سبحانه، ويقال في قوله سبحانه وتعالى (إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ)
سورة آل عمران أية 159،
لأنّ التوكّل علامة
صدق الإيمان، وفيه ملاحظة عظمة الله وقدرته، واعتقادُ الحاجة إليه، وعدم الاستغناء
عنه وهذا، أدب عظيم مع الخالق يدلّ على محبّة العبد ربّه فلذلك أحبَّه الله
سبحانه، وقال شقيق البلخي التوكل أن يطمئن قلبك بموعود الله، وقيل التوكل التعلق
بالله في كل حال، ومن علامة التوكل الصادق؛ الذي يجده أهل التوكل، هو كما قال سيدنا
الشيخ الحسن البصري قدس سره، قال: إن من توكُّل العبد أن يكون الله عزَّ وجلَّ هو
ثقته، عن أبي قدامة الرَّملي قال: قرأ رجل هذه الآية(وَتَوَكَّلْ
عَلَى ٱلْحَىِّ ٱلَّذِى لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِۦ ۚ وَكَفَىٰ بِهِۦ بِذُنُوبِ
عِبَادِهِۦ خَبِيرًا)سورة الفرقان أية (58)
فأقبل عليَّ سليمان
الخواص فقال: يا أبا قدامة، ما ينبغي لعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد بعد الله
في أمره، ثم قال: انظر كيف قال الله تبارك وتعالى(وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ) فأعلمك أنه لا يموت، وأنَّ جميع خلقه
يموتون، ثم أمرك بعبادته فقال(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) ثم أخبرك بأنه خبير بصير، ثم قال : والله
يا أبا قدامة لو عامل عبد الله بحُسْن التوكل، وصدق النية له بطاعته، لاحتاجت إليه
الأمراء فمن دونهم
! فكيف يكون هذا
محتاجًا وموئله وملجؤه إلى الغني الحميد، قال شقيق البلخي لكِّل واحد مقام؛ فمتوكل
على ماله، ومتوكل على نفسه، ومتوكل على لسانه، ومتوكل على سيفه، ومتوكل على
سلطنته، ومتوكل على الله عز وجلَّ. فأما المتوكل على الله عز وجل؛ فقد وجد
الاسترواح، نوَّه الله به، ورفع قدره، وقال (وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) وأمَّا من كان مستروحًا إلى غيره؛
يوشك أن ينقطع به فيشقى، قال علي بن بكار: شكا رجل إلى إبراهيم بن أدهم كثرة عياله، فقال له إبراهيم يا أخي، انظر كل من في منزلك ليس رزقه على
الله، فحوِّله إلى منزلي، وقال رجل لحاتم الأصم رحمه الله من أين تأكل؟ فقال (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) سورة المنافقون أية 7، قال إبراهيم
الخواص رحمه الله
أدب التوكل ثلاثة
أشياء، صحبة القافلة بالزاد، والجلوس في الزروق بالزاد، والجلوس في المجلس
بالزاد، وأخرج ابن مردويه عن
الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رضي وقنع وتوكل كفي
الطلب، ويقول
سيدنا الشيخ جنيد البغدادي قدس سره:
التوحيد قول القلب،
والتوكل عمل القلب، ويقول سيدنا الشيخ الباز عبد القادر الجيلاني قدس سره التوكل هو الخروج من الحول والقوة
مع السكون إلى رب الأرباب، ويقول قدس سره تفويض الأمور
إلى الله عز وجل والتنقي من ظلمات الاختيار والتدبير إلى ساحات شهود الأحكام
والتقدير فيقطع العبد ألاّ تبديل للقسمة فما قُسم له لا يفوته وما لم يُقدّر له لا
يناله فيسكن قلبه إلى ذلك ويطمئن إلى وعد مولاه، وقيل: التوكل هو
انطراح القلب بين يدي الرب وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار،
وقيل:
التوكل نفي الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك، أبو يعقوب النهرجوري: التوكل على
الله بكمال الحقيقة ما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام في الوقت الذي قال لجبريل
عليه السلام: أما إليك فلا، ويقول سهل بن عبد الله التوكل قلب عاش
مع الله بلا علاقة، وقيل:
التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال، أبن عطاء الله السكندري التوكل ألاّ تظهر
في انزعاج إلى الأسباب مع شدة فاقتك إليها ، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع
وقوفك عليها، التوكل تمام اليقين بالله، وقيل هو سكون القلب إلى كفاية الله تعالى ،
وتفويض الأمور إلى الله تعالى لكفايته ، والاعتماد عليه تعالى لعلمه وقدرته، وقيل
التوكل يجمع بين العمل والأمل مع هدوء قلب وطمأنينة نفس ، واعتقاد جازم أن ما شاء
الله كان و ما لم يشأ لم يكن، ويقول ذو النون المصري التوكل ترك تدبير النفس والانخلاع من الحول والقوة، ويقول الغزالي الاكتفاء بالأسباب الخفية عن الأسباب الظاهرة مع سكون النفس
إلى مسبب السبب لا إلى السبب.
المصادر:
روضة
المريدين
مصادر أخرى متفرقة